لا حرج على الشباب، فالسياقات مضيئة .. وهي الأبقى والأجمل

لا حرج على الشباب، فالسياقات مضيئة .. وهي الأبقى والأجمل
        لم يمر على نشر المقال السابق، ها هنا، سوى يوم واحد، وكان افتتاح المؤتمر الوطني السابع ل”حشدت”. لو أفصحت عن هواجس تغيير محور المقال من خلاصات الذكرى 38 لملحمة 20 جوان 1981، إلى “مشاكل ذاتية”، للخصتها في التحذير من الغرق في سوء النية بيننا وما قد يجره من عواقب مؤلمة إن لم تكن قاتلة للبعض من شباب اليسار. والذنب ذنب كبار السن.

        اليوم بين أيدينا، حصيلة مسؤولية “الكبار” عن تحويل محطة تنظيمية لست مئة من شباب المغرب الغض الطري العود، إلى رهان سياسي لفائدة “الكبار”.

عندما ألفظ كلمة “كبار”، ليس المعنى العظمة والفخر بالمنجزات. بل كبار السن، الذين عليهم مسؤولية رسم معالم القدوة السلوكية لتُزَيّنَ ملامح الديمقراطية الجميلة وجه اليسار. لن يتمكن اليسار من التحول إلى معشوق الشعب إذا لم يكن فعله السياسي لحنا موسيقيا شجيا آسرا.

ما الذي يتردد على مسامع شباب الشعب بعدما تكسرت أسطوانة مؤتمر شباب اليسار؟ تقول الحكمة: من لم يأخذ الدرس من أزمات الماضي فالتاريخ يعيد نفس مرة في شكل مأساة وثانية في شكل مهزلة. ألم يكن لنتائج المؤتمر 17 لأوطم، سنة 1981 بمثابة مقدمة فقدان اليسار لهذه المنظمة الشبابية الطلابية؟ خرج شباب الشعب في يونيه من تلك السنة المجيدة مسترخصا حياته من أجل الغد الأفضل، ثم في نفس الصيف أتخنت السياسة الجسم الشبابي الطلابي بجراح التخوين والمزايدة اللفظة انعكاسا للظرفية الملتبسة.

يتحدث “كبارنا” عن ضرورة الانتباه لمقولة “الزمن السياسي” و”خطر” إفلات الفرص التي لا تتكرر. يجري الحديث عن ضرورة الإسراع بالاندماج. ويكون المعنى هو الإسراع بالحلقة التنظيمية كي ننجز الترتيبات القانونية كي يبقى لنا الوقت الكافي قبيل استحقاقات 21 الانتخابية.

نعم، المنطق سليم. والكلمة كلمة حق.

لكن خلق كيان حزبي مركب، مركب من مدارس متنوعة ولا نقول مختلفة. خلق كيان مركب وهو يعيش كل يوم في سياق اختلافات تتناسل داخل كل مكون من المكونات الثلاثة لفيدرالية اليسار. خلق كيان مركب يقتضي العقلانية المترسخة التي تمتزج بهموم الشعب، والعقلانية المترسخة التي توفّر للتنظيم شبكة مسالك واصلة/فاصلة مع وضد المؤسسات القائمة. مؤسسات قائمة على نظام مركزية تنفيذية، ترسم دوائر نفوذ – واسعة أو ضيقة- حسب الاستجابة مع قواعد لعبة ديمقراطية الواجهة.

        إذا كان المؤتمر الرابع للاشتراكي الموحد قد نجح، فقد انشغلنا بنجاحنا وبعد عام، أنا واحد من الذين انشغل بتهمة النجاح وتركنا المسألة الشبابية تسقط ثمرة من أغصان شجرة النجاح. وإذا كان المؤتمر الرابع قد فشل أنا واحد ممن انشغلوا أيضا بتهمة الفشل وتملكني الخوف على الشباب من التجييش والسقوط في لعبة “كبار السن” وأنا واحد منهم، فأحطنا حديقة الشباب الجميلة بأسوار من الإهمال فلم يجدوا منا من دور سوى تركهم تحت ظلال الخوف الدامسة معزولين معنويا عن سياقات مضيئة أوسع.

        السياقات المضيئة حراكات شعبية ممانعة تتوزع على مناطق الوطن، وتنقش مفهوم الشعب المنشغل بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. السياقات المضيئة قريبة منا على الحدود الشرقية منذ الأسبوع الأخير من فبراير الجزائري كل أسبوع إلى اليوم، حتى رأوا استقالة الرئيس المجهول المصير ضمن مختفون ورؤساء حكوماته في السجن. السياقات المضيئة في السودان المنتفض بعصيانه المدني. السياقات المضيئة بمسيرات العودة في فلسطين منذ 62 أسبوعا وهو ما يفوق السنة. السياقات المضيئة إجماع كل القيادات الفلسطينية لرفض الرشوة الاقتصادية والمطالبة بالحل السياسي أولا.

        ليس على الشباب حرج. لديهم كل العمر كي يستدركوا أمامهم ما بقي دينا في ذمة المؤتمر السابع المتوقف. نحن “كبار السن” الذين أنسيناهم تضحيات شباب فلسطين وتونس ومصر والسودان والجزائر. لنشغلهم بما انشغلنا به من احتلال مواقع قيادية في التنظيم وأنسيناهم القضايا العادلة والتي لولها لما كانت للديمقراطية الليبرالية التمثيلية من قيمة أصلا.

        شغلنا الشباب بهموم اختلافاتنا وتركناهم فريسة أوهامنا الذاتية.

        في الثورة الفرنسية اقتيد القيادي الشاب سان- جوست إلى المقصلة ولم يزد عمره عن 27 ربيعا. لما صنفه “كبار السن” في الثورة الفرنسية أنه نصير روبيسبيير. بعد اغتيال جان مارا رفع الثوار شعار نقل العنف إلى صفوف العدو. وفي حمأة “التعبئة” انتقل عنف الثورة إلى قلب السلطة الثورية ودار رحى الطحن داخل الثورة.

        عندما تغلب ذهنية الحرب في تنظيم سياسي، يستريح الخصم السياسي. لأن التصفوية التلقائية تصبح ماكينة تدور تلقائيا. تنهار المعنويات. تطفو التهم الجاهزة وعلى رأسها التخوين. وفي خضم الحرب الوهمية تصدر قرارات الإعدام المعنوي والإعدام المضاد.

        لذلك، انقلب منطق “الزمن السياسي” إلى ما يشبه سرعة المائة متر الأخيرة في سباق جنوني، والسرعة تقتل على كل حال.

        أما النقد الذاتي الذي أقدمه فهو من شدة الخوف من قتل السرعة لرفاقي ورفيقاتي، أنني سقطت في البطء النقيض. أعيدها مرة أخرى: “ولا عليكم، مسحوها في الخمسي وفللي بحاله من كبار السن”. فالشباب طاقة صاروخية لو وجدوا قربهم من هم في مثل سني لتقريب المسافات وتذليل الصعوبات وبناء الجسور.

        فنحن جميعا نخاطب بعضنا بعضا بكلمة رفيقة ورفيق، بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي، لم يخطئ الاشتراكيون  الأوائل من لغة الضاد عندما ترجموا camarade. لكن في الأوقات العصيبة التي نسقط في مستنقعها نصير في نظر بعضنا بعضا كالمرض. بينما الحكماء جعلوا “الرفق رأس الحكمة” وقالوا فيه أيضا: الرفق في المعيشة خير من كثير التجارة. وجعله الحديث من قبل على قمة تسلسل ما معناه: أحسن الإيمان- بالقضية العادلة هو- ما يزينه العلم، وما أحسن العلم يزينه العمل، وما أحسن العمل يزينه الرفق.

وقال الشاعر:

ورافق الرفق في كل الأمور فلم  /// يندم رفيق ولم يذممه إنسان

ولا يغرنك حـــظ جـــــره خرق  /// فالخرق هدم ورفق المرء بنيان

ولنوجز: اعتبار الزمن السياسي يصبح ملحا عندما تكون المهام أكبر من المسافة الزمنية أمامنا. لكن يظهر أن حكمة “الرفيق قبل الطريق” تقتضي العمل بها قبل أية أجندة. إعادة الاعتبار للرفقة فيما بيننا أولوية الأولويات. ونفسية الحرب تقتل صاحبها كمدا قبل خوض الحرب نفسها.