هذا التساؤل تفرضه الممارسة التنظيمية. أما التصور فدونه يصبح النضال عشوائيا بمقدار حكمة المغاربة “للي حرث الجمل دكه”. خصوصا في زمن “مصيدة التشتت الرقمي”. يجب الانحناء لأرواح من انكبوا على التخطيط للنضال أكبر تصورين في تاريخ المغرب المستقل: الاختيار الثوري (1962-1973) والتقرير الايديولوجي (1975). وعلى النقيض من أنصار تخطي النضال بالتصور أؤلئك صانعو حدث 8 ماي في المغرب بإيحاء لما ارتكبته فرنسا ذات 8 ماي في الجزائر.
عندما يراجع اليساري حصيلة عمله في الزمن، هل يجد نوعية اشتغاله مختلفة عن الفرص الضائعة التي أهدرها الحكّام من موقع الدولة؟
نحن اليساريون حاذقون في إلقاء المسؤولية على النظام. حتى كوارثنا الداخلية قد لا نفتقد من ينسبها لمؤامرة النظام. وأما بمجرد ما نفكر في توحيد اليسار لا يعدم من يختلق مؤامرة إماراتية. كما لو كانت تركيا التي تمثل الجسر الصلب لمرور بضائع الصهيونية إلى عقر الدار هي منقذتنا من الضلال.
يطيل اليساري الكلام عن الفرص التي أضاعتها الطبقة السياسية في مرحلة الحرب الباردة. يلوم القيادات الاستقلالية والاتحادية. أما التهم الجاهزة تجاه رموز النظام فطويلة عريضة. وهناك من يختصر التحليل، إما يكرر القاموس التقليدي للحركة الوطنية= الحكّام مجرد خونة. أو يكرر عموميات الماركسية= الحكّام مجرد تحالف طبقي كومبرادوري. أو يكرر كلام هواة السياسة والعابرون في زمن الكلام السياسي السهل العابر= الحكام مرتكبوا انحرافات وانتهازيون.
وعندما يريد اليساري أن يكون شاملا في تقييمه للأوضاع والتحولات، يجمع قاموس التخوين مع التصنيف الطبقي الكامبرادوري مع القابلية للانحراف واستسهال الطريق الانتهازي. في الحالات الثلاث يصبح اليساري مقلّدا لا منتجا لفعل سياسي مختلف عمن سبق بالكلام السياسي في زمن مصيدة التشتت الرقمي.
عندما يتكلم اليساري بهذه المنظومة الثلاثية الجامعة لقواميس الحركة الوطنية (التخوين) والماركسية السهلة (التهم الطبقية الجاهزة) وسياسة الكلام العابر (وصم الآخرين بالانتهازية) يكون قد اقتعد مقعد الأبرياء النزهاء في مقعد الصدّيقين إن لم يكونوا القديسين المعصومين مذكورين ضمن “مدرج السالكين” (ابن القيم الجوزية).
بينما الليبرالي الغربي يملك الشجاعة للاستقالة إن عجز عن تنفيذ مخططه وفق الرؤية التي عرضها أثناء تنافس البرامج الانتخابية والسياسية. ويملك الأصولي الوضوح في الفصل بين المهام الدعوية (حيث يقلد السلف) والمهام السياسية (حيث يقلد الليبرالي). في الوقت الذي على اليساري تملّك البصيرة التي تراعي أجود ما أنتجه الليبرالي (لفهم العصر) وأحسن تمثلات التراث (أبو علي مسكويه) مع الناس (لفهم المجتمع)، كي تصبح الخميرة الاشتراكية مادة فاعلة في العجين السياسي.
كيف يقتضي الأمر أن يتميز اليساري عن الليبرالي وعن الأصولي؟ ناهيكم عن تملك التراثَيْنِ المحلي (الأصولي) والعالمي (الليبرالي)، من المفروض في اليساري أن يصبح مبدعا محليا في اشتراكية القرن 21. نعم عبر الممارسة نتمثل اشتراكية اليوم أو لا نتمثلها. اشتراكية نبذت مصطلح الدكتاتورية وتبرأت من أشكال العنف في السياسة.
هذا الكلام نفسه يحمل بذورا من طوباوية الاشتراكيات السابقة عن القرن 21. كونه كلاما معسولا سهل القول. لكن حيوية التصور تكمن في الامساك بمعايير شبكة قراءة وقياس أفق التوقع. عندها لا حاجة لصيد الساحرات.
نعم إنه كلام سهل القول من حيث كونه جملا مكتوبة هنا في الموقع الرسمي للحزب الاشتراكي الموحد. لكن، والحال أنه كلام يأخذ هذه الصبغة الحزبية تلتصق به مبدئيا لأنه بصدد اليساري المغربي، ولأن الارتباط بالمجتمع في الزمان والمكان، لا بد أن يكون له وزن خفيف أو ثقيل حسب مصداقيته. ومصداقية الكلام اسم مستعار للحقيقة. والكلام إما أن ينسجم مع الوقائع فيعبر عن الحقيقة، وإما أن يكون بعيدا عن الوقائع فيصبح تلفيقا وملءاً للفراغ المتبقي من الترقية المهنية والتبرجز الذاتي بلا كلل.
اليساريون الذين يحكمون الصين اليوم أطلقوا شعار “دع مائة مدرسة تتبارى، دع مائة زهرة تتفتح”، وهم بذلك لم يقلدوا اعتراض لينين على الليبرالي بانتقاده المنطق الليبرالي عندما حدد مهام الكتابة النضالية في جريدة الشرارة (الايسكرا) فمنع أن يكتب البلاشفة بمنطق “دعه يكتب، دعه يقرأ”. وكرس الصينيون العلاقة السوية بين المناضل والمجتمع باعتباره “سمكة في الماء”، وليس باعتباره “ناطور المفاتيح” على حد تعبير أهل الشام بصدد حارس المعبد الصليبي أيام مقاومة نور الدين زنكي، محرر الموصل وأستاذ صلاح الدين الأيوبي. نعم اخترع ستالين مصطلح “بلشفة المناضل” (مسائل اللينينية) لكن في لحظة الأزمة في التنظيم السري. واشتراكية اليوم لا علاقة لها بالتنظيم السري.
نعم، عايشنا السرية واحترزنا واستفدنا من منطق “من الحزم سوء الظن” كما لمسنا فعلا أن في كثير من الحالات يكون “طريق جهنم مفروشا بالنيات الحسنة”. لكننا ما سمحنا لأنفسنا أن يكون اليساري القح هو مقطب الحاجبين ومتوتر الحالة العصبية متربصا بمؤامرات رفيقاته ورفاقه. بل أعيطنا الأولوية للاحتراز من الحالات حيث قد نكون نحن أنفسنا في لحظة “النفس الأمارة بالسوء”. حرصنا أن نكون “النفس اللوامة” بمعنى النقد الذاتي وليس بعجرفة النقد من موقع الأستاذية. الزمن وحده الأستاذ والكشّاف. وعندما انتبهنا لجبيننا ولجبين غيرنا اخترنا أن نردد جمالية صوت فيروز الذي يصف جمالية “عاقد الحاجبين فوق الجبين اللجين”.
لم ننتظر داعش وصناع الموت (من الاعتقاد إلى الذبح) كي نحب الحياة، لكن أحببنا الحياة وبلا بذخ. عشنا أيام الإضراب عن الطعام ونحن نتدبر الصبر الجميل لأيوب النبي بمعنويات عالية وجمال الروح. ولأن السرية كانت قلعة العزلة الإرادية عشقنا مع إمام بمنطق: “إن كان أمل العشاق القرب، أنا أملي في حبك هو الحب”. وكان المخيال ينسج فلسطين مع المودة في المعاملة والتضحية في السياسة والصبر الجميل من أجل كل القضايا العادلة.
لذلك، يحلو لنا أن نلتقي بأقدم من عرفنا في الحياة قبل الاشتراكي الموحد: سيدي خيري، ثورية التناني، محمد بولامي، خديجة أبناو، ومحمد مجاهد، ، بأسباب ومناسبات مختلفة، ويحلو لنا أن نقهقه ونفرفش ونضحك. بلا تخطيط ميكيافيللي. ويحلو لنا أن نعيش ضمن حسن التدبر حالات اللقاء وحالات الفراق بلا مظلومية ولا تبرير ودائما وأبدا بعزة نفس. عزة النفس التي لم تنسها المصرية أم كلثوم ولم تأت بثقل التكرار على لسان التونسي صابر الرباعي لمن له ذاكرة.
ولما نحس أننا في حالة “النفس المطمئنة، راضية مرضية”، فلأننا سعدنا بمرافقة من لم “يبدلوا تبديلا”. ولو شاء للعلم أن يحيا بيننا مانديلييف جديد لأفرز المعادن غير المغشوشة بنسبة عالية. لكننا اليوم، ونحن باسم اليسارية ننسى فضل انتمائنا لأهل الكتاب منذ أكثر من ألف عام، نجد أنفسنا أننا في “مصيدة التشتت الرقمي” كما كتبت الصحافية البريطانية فرنسيس بووث. ليقول أستاذ صديق في عرض سياسي أن “الاشتراكية هي هي، كيف البارح كيف اليوم”.
ولأننا قد نحترز من مصيدة التشتت الرقمي على الشباب، نركن إلى أخلاق الفضيلة التي تصنف الناس صنفين: من يتفق معي يقترب من مكانتي المقدسة. ومن يختلف معي يكاد يسقط في الهاوية المدنسة. الله يرحمك أيها العزيز الراحل أحمد محفوظ الذي تتلمذت على الفقيه محمد بوخبزة ولن يتهمك أحد بجهل الدين، فقط أرسل لك أتباع بنكيران الزبانية لإرهابك وترعيبك، يوم لم تعد من أتباعه وفقد فيك الداعية الصادق الذي اكتشف الحقيقة. لم تشر بعد ذلك لعنوان “أخلاق العناية” الذي قرأناه من بعد بتوقيع فيرجينيا هيلد: أخلاق العناية. العناية التي تنصت للآخر، والعناية التي تعني المعادلة العلمية بين الأنا و الآخر.
معايشة المراكشيين في قلب البنيقة داخل جامع الفنا، علمتني أن النضال حب الحياة والتنكيت والتعامل مع الهموم بصفاء ذهن كي لا يتحمل المخ سموم المظلومية وهلوسات المؤامرة. ونبذ أسلوب المعارك الخاسرة مسبقا من فرط نفسية العرب الدونكيشوطية. وأخيرا “رحمتي تسبق غضبي” كما شنف سمعي ذات يوم عزاء في راحل عزيز حسن، أب راحل فقيه المضيق، الراحل الفقيه الدردابي.
إذا كان على المناضل اليساري أن يكون في المجتمع مثل السمكة في الماء، فعلى التنظيم الحزبي اليساري أن يجسد للمواطنة والمواطن الذي يتطوع ليصبح مناضلا في الحزب أن يجد مسؤوليه بمرونة الماء وعذوبة الزلال منه التي لم تكدرها تعقيدات بيروقراطية التقارير ونار الغضب الزائد.
فيكفي أن تكون أسفار التوراة كلها محن راهنت على كسر الإرادة. سفر الدخول الأول إلى مراكش كان بالعصابة العينين والمصفد في اليدين، وسفر الدخول الثاني الى الدار البيضاء كان تحت فوهة الدركي كما لو كنا من أزلام ابن عرفة، أما سفر الخروج الأول إلى سبتة فكان الرد سحب جواز السفر الأول مباشرة.
شباب اليوم ليس قدرهم أن يعيشوا تحت قهر التقارير لينشغلوا عن نضاليتهم الطليقة وسط الأحياء. خصوصا ولم يختاروا السياسة السهلة بالانخراط منذ البدء في الأحزاب الكبرى. فلهذا اليسار السبعيني ما يكفيه من المرارة. ولشباب ما بعد 2011 في التنفس داخل المقرات وخارج هندسة التيه.
أخيرا:
ندرٍ علي لو قلتي أيوة لأخلّي روحي فى إيديكى شمعة
وافرش عيني في كل خطوة تمشي عليهم والشمعة والعة (شكوكو في أوبيريت ليلى مراد)