التطور التاريخي للتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية بالمغرب (الجزء2) – عبد السلام المودن

التطور التاريخي للتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية بالمغرب (الجزء2) – عبد السلام المودن

القسم الثاني:صيرورة الانتقال من المجتمع الاقطاعي الى المجتمع الراسمالي

 

1- تحول الاقطاع القديم الى اقطاع جديد :

في سنة 1830 تتمكن الجيوش الفرنسية من احتلال الجزائر لاخضاعها للاستعمار. لكن الغزو الفرنسي سيواجه بمقاومة شديدة من طرف القبائل الجزائرية بقيادة الامير عبد القادر. و في نهاية سنة 1843, يتمكن الفرنسيون من هزم الامير عبد القادر, مما جعل الدولة المخزنية المغربية بقيادة السطان عبد الرحمان, تهب لمساندته. و في سنة 1844, تقع المواجهة العسكرية بين القوات المغربية و الجيش الفرنسي قرب وادي ايسلي, حيث ستنتهي بانهزام ساحق للجيش المغربي. ان هذه الهزيمة العسكرية ستفرض على المغرب توقيع معاهدة طنجة, القاضية باعتراف المخزن الوجود القانوني الفرنسي على التراب الجزائري, و بحق الجيش الفرنسي بمطاردة المقاومين الجزائريين داخل التراب المغربي. ان اول درس سيستخلصه المخزن من تجربة معركة ايسلي, هو التخلق الكبير للسلاح المغربي امام السلاح الفرنسي الحديث و المتطور. من هنا كان قرار العمل على تزويد الجيش المغربي ببعض الاسلحة الاوربية الحديثة. غير ان شراء بلك الاسلحة يتطلب نقودا, و النقود لا يمكن الحصول عليها الا بواسطة بيع المنتوجات المغربية في الاسواق الاوربية. و هذا معناه القبول بالانفتاح على التجارة الاوربية. لكن اذا كان ذلك الانفتاح في البداية, يعبر عن حاجة اضطرارية (اقتناء السلاح الاوربي), فانه سرعان ما سيتحول في المرحلة التالية الى اختيار استراتيجي, ينسجم مع مصالح الاقطاع المخزني المغربي. فهذا الاخير سيكتشف بسرعة بان التجارة مع اوربا مربحة بسبب ارتفاع اسعار المواد المغربية في الاسواق الاوربية. و فعلا, فقد تظافرت في هذه المرحلة من بداية الانفتاح, مجموعة من العوامل المناسبة التي سمحت بتشديد الطلب الاوربي على المنتوجات المغربية, و على راسها الحبوب و الاصواف, و بالتالي امكانية رفع اسعارها. ان هذه الظروف المساعدة هي التالية :
1- بعد اجتياز الازمة الاقتصادية التي عصفت باوربا في السنوات 1848-1850, و انتهاء الثروات التي صاحبتها, دخلت اوربا في محصلة جديدة من الازدهار الاقتصادي, التي استمرت من سنة 1851 الى سنة 1873. ان الانفتاح المغربي الفعلي على التجارة الاوربية, يبدا بالضبط من سنة 1851.
2- تاريخا, ادى تطور صناعة النسيج الانجليزية الى حفز الملاكين العقاريين الانجليز الى تحويل اراضيهم من مزارع منتجة للحبوب الى مراع لتربية الغنم, و ذلك لتوفير الاصواف للصناعة, بسبب اشتداد حدة الطلب على تلك المادة, و لقد كان من نتائج ذلك, لجوء بريطانيا باستمرار الى الاسواق العالمية للتزود بالحبوب.
3- لقد شهدت تلك المرحلة انطلاقة قوية لصناعة النسيج الفرنسية, و كانت مدينة مرسيليا ابرز رزموزها.
4- ان تواجد جيش فرنسي ضخم في الجزائر بعد استعمارها دفع المسؤولين الفرنسيين الى التفكير في المغرب, البلد المجاور, لتامين حاجيات الجيش, و ذلك لان تلك الحاجيات كبيرة و اثمنة سوق مرسيليا مرتفعة بالاضافة الى ربط النقل و صعوباته.
5- توقف روسيا عن امداد اوربا بالحبوب.
6- تقلص اهتمام المزارعين الاوربيين بانتاج البطاطس.
7- تزايد النمو السكاني في تلك الفترة.
ان كل هذه العوامل المساعدة, ساهمت في تشجيع الاقطاع المخزني على الانفتاح على التجارة الاوربية, و هو كلما خطا خطوة في هذا الاتجاه, الا و عمدت الدول الاوربية الى تعميقه عبر تاسيسه وفق تعاهدات دولية و اتفاقات قانونية. و هكذا, ففي سنة 1856 تمكنت بريطانيا من فرض معاهدة اقتصادية بالغة الاهمية, كان من ابرز نتائجها : من جهة, الغاء احتكار المخزن للتجارة الخارجية, و بالتالي تمكين قوى اجتماعية اخرى من المتاجرة مباشرة مع اوربا بدون المرور بالوساطة المخزنية. و من جهة ثانية, تخفيض الرسوم الجمركية و جعلها متساوية بالنسبة لجميع الموانىء المغربية (مما سمح لميناء الدار البيضاء بالتطور السريع على حساب موانىء اخرى). و في سنة 1859, تشن اسبانيا حربا عدوانية على مدينة تطوان, حيث تحتلها, و لا تقبل الانسحاب منها الا مقابل تعويضات مالي ضخمة تقدر ب 105 مليون فرنك, تسدد بالذهب او العملة الصعبة, الشيء الذي يعني دفع المغرب الى تعميق ارتباطاته التجارية مع اوربا للحصول على جزء من موارده المالية قصد تسديد تلك الديون. و في سنة 1863, تتمكن فرنسا بدورها من فرض معاهدة تعترف بالحماية للاشخاص الاجانب و المغاربة مع ممتلكاتهم. و هذا معناه اعفاؤهم من كل انواع الضرائب المحلية, و عدم اخضاعهم للقانون المغربي. ان الطبقة الاقطاعية المغربية, ستجد نفسها مندفعة اكثر فاكثر نحو الاندماج في التجارة الراسمالية الاوربية, حيث اصبح همها الاساسي هو تجميع اكبر قدر ممكن من الفائض الاقتصادي للفلاحين, في شكل حبوب و اصواف و جلود, و تصديره الى اسواق اوربا لتحويله الى نقود.
بل اكثر من ذلك, فهي وراء تهافتها المسعور على النقود الاوربية, اصبحت تطمع حتى في الجزء من الانتاج الضروري لمعيشة الفلاحين, مما جعل هؤلاء يضطرون الى اللجوء الى الشاي والسكر المستوردين كغذاء جديد يعوضهم اصطناعيا عن غذائهم الحقيقي الذي اصبح يصدر الى اوربا في شكل حبوب للبيع. و هكذا ستساهم الطبقة الاقطاعية في ربط الفلاح المغربي نفسه بالتجارة الاوربية, من خلال خلق حاجيات استهلاكية جديدة لديه, لن يحصل عليها الا في الاسواق الاوربية. ان المراقبين الاوربيين في تلك الفترة, كانوا يقدرون عدد الجمال المحملة بالحبوب التي كانت تتوافد يوميا على ميناء الدار البيضاء قصد التصدير, بعدد يتراوح ما بين الفين و ثلاثة الاف جمل في موسم الحصاد.
ان هذا الانفتاح على التجارة الاوربية, قد غير تغييرا جذريا طبيعة الاقطاع المغربي, و ذلك بتحويله من اقطاع قديم الى اقطاع جديد. ان جوهر الاقطاع القديم, هو الاعتماد اساسا على الاقتصاد الطبيعي, الذي يتميز بالاستحواذ على فائض انتاج الفلاحين من طرف الاسياد الاقطاعيين, و استهلاكه مباشرة على حالته الطبيعية الاصلية, دون اخضاعه لعملية التبادل التجاري. و اذا ما حصل نوع من التبادل التجاري, فان ذلك لا يمس سوى جزءا ضئيلا من الفائض الاقتصادي, و ان عملية التبادل نفسها تتم في الاسواق الداخلية. اما جوهر الاقطاع الجديد, فهو نهج الاقتصاد النقدي الذي يتميز بتحويله فائض انتاج الفلاحين الى نقود عبر اخضاعه للتبادل التجاري, و ان هذه التجارة تتم مع الاسواق الخارجية و ليس الاسواق الداخلية. و مع ظهور النقود و هيمنتها, تزداد و تتنوع الحاجيات الاستهلاكية للطبقة الاقطاعية بتنوع البضائع المعروضة في الاسواق الخارجية, كما يشتد الحرص على تنمية الموارد النقدية مما يدفع الطبقة الاقطاعية الى القيام ببعض الاستثمارات لتحسين ظروف التجارة (مثلا تجهيز الموانىء التجارية بمنشات حديثة, بناء المحلات التجارية قرب الموانىء لاستقبال البضائع, انشاء بعض الطرق … الخ).
ان تحول الاقطاع المغربي الى اقطاع جديد مرتبط بالتجارة الراسمالية الاوربية قد طبع الحياة الاجتماعية المغربيى بمجموعة من الظواهر الجديدة تماما, مثل النمو السريع لبعض المدن الساحلية كالدار البيضاء (ان المرحلة الاقطاعية القديمة لم تكن تعرف مدنا فعلية, باعتبار ان ما سمي المدن كان مجرد حواضر, اما كمقر اقامة السلطان و حاشيته, و اما كمركز ديني … ان المدينة الفعلية الحديثة المتميزة بوظائفها الجديدة, لم تظهر الا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, و هي بنت التجارة مع اوربا الراسمالية), و هو مثل انتشار بعض المواد الاستهلاكية كالشاي و السكر, و ظهور مؤسسات مالية, كالبنك الانجليزي في طنجة, و ظهور التلغراف الذي يربط المغرب باوربا, و ظاهرة الصحافة الطنجوية التي كان يشرف عليها يهود مغاربة ينتمون الى الفوج الاول من المثقفين خرجي مدارس الرابطة الاسرائيلية و ظاهرة الجالية الاوربية التي بلغ عددها في نهاية القرن 19 ثلاثة الاف فرد.
2- ازمة الاقطاع الجديد :
في مطلع السبعينات من القرن الماضي, عرفت الطبقة الاقطاعية المغربية ازمة عميقة سيكون لها دور اساسي في دفع المغرب الى السقوط في احضان الحماية الفرنسية التي سيتم الاعلان عنها رسميا سنة 1912. لقد كانت الازمة مالية في مظهرها, لكن في جوهرها كانت ازمة بنيوية, اظهرت الى اي حد اصبح الاقتصاد المغربي مرهونا بالاقتصاد الراسمالي الاوربي, و خاضعا لتقلباته. ان عوامل تلك الازمة هي التالية :
1- ان مرحلة ازدهار الاقتصاد الاوربي, الممتدة ما بين 1851 و 1873, و التي استفادت منها اسعار المنتوجات المغربية المصدرة الى الخارج, ستنتهي لتعقبها ازمة اقتصادية اوربية طويلة, تمتد من سنة 1874 الى سنة 1895, مما ساهم في تدهور الاسعار.
2- ان فتح قناة السويس اما الملاحة التجارية الدولية, و تطور السفن التجارية البخارية على حساب السفن الشراعية في نفس الفترة تقريبا, قد احدث ثورة في المواصلات, سمحت بتقريب الولايات المتحدة الامريكية و استراليا من اوربا, مما ادى الى تدفق الحبوب الاسترالية و الامريكية, و كذا الاصواف الاسترالية, على الاسواق الاوربية, و بالتالي ظهور مزاحمين اقوياء لحبوب و اصواف المغرب.
3- الانتشار الواسع للحماية الاجنبية للاشخاص و الممتلكات المغربية. هذه الحماية التي كانت تهم عشرات الالاف من المغاربة في نهاية القرن, كانت تشمل معظم اغنياء المغرب (امثال الشريف عبد السلام زعيم الزاوية الوزانية المحمية من طرف فرنسا, و مولاي الحاج الشريف شيخ زاوية تامصلوحت المحمي من طرف بريطانيا …) و الحماية تعني بكل بساطة, اعفاء هؤلاء الاغنياء من دفع الضرائب للخزينة المخزنية ..
4- انخفاض الموارد الجمركية بسبب تدهور قيمة العملة.
5- اعفاء التجار الاوربيين من الضرائب عند مدخل المدن.
6- فرض تقديم تعويضات مالية منهكة على الدولة المخزنية, عن الاضرار التي تلحق بافراد الجالية الاوربية, الناجمة عن اعتداءات المغاربة (مثلا السرقة و الاغتيال ..).
7- تسديد الحصة السنوية من ديون حرب تطوان الاسبانية, و التي لم يتخلص منها المغرب نهائيا الا سنة 1885.
8- تكاليف شراء الاسلحة الباهضة الثمن, لحماية الشواطىء و الموانىء التجارية, و للقيام بالحملات العسكرية لقمع الاقطاع المحلي المتمرد.
9- تزايد النفقات الاستهلاكية لدى الطبقة الاقطاعية الحاكمة, بسبب ظهور حاجيات جديدة خلقتها التجارة الاوربية.
10- الازمة الفلاحية الكبرى لسنوات 1878 – 1885 التي اتخذت ابعادا حادة جديدة في شروط الاندماج في النظام التجاري الاوربي الراسمالي.
كيف حاولت الطبقة الاقطاعية الحاكمة حل هذه الازمة ؟
لم يكن امامها في البداية سوى هذه الوسيلة : من اجل الرفع من مواردها المالية, كان يتعين عليها الرفع الى الحد الاقصى من حجم الصادرات, و هذا يتطلب بدوره تعريض الفلاحين الى نهب اشد. لكن هذه الوسيلة لم تكن ناجحة, بل بالعكس كانت لها عواقب جد خطيرة : فالفلاحون الذين لم يعودوا يتحملون تلك الدرجة من الاستغلال اصبحوا يفضلون, بكل بساطة, الفرار من الاراضي للتوجه الى مدن الموانىء او التسكع في الطرق (ان الكنانيش المخزنية نفسها تتحدث في تلك الفترة عن فرار الفلاحين من الاراضي الزراعية بسبب حدة الاستغلال الاقطاعي). و هذا الوضع ادى بدوره الى تزايد الانتفاضات و التمردات, مما هدد الحركة التجارية نفسها بسبب تدهور الامن. و امام هذا المازق, لم تجد الطبقة الاقطاعية نفسها في حلقة مفرغة من القروض السنوية التي اصبحت عبارة عن مجرد قروض لتسديد الفوائد المتراكمة. ان قروض سنوات 1902, 1903, 1904 و 1905, هي اسطع مثال على تلك الحلقة المفرغة. لقد اصبح واضحا اذن, ان دولة قوية هي وحدها القادرة على اصلاح مالية المخزن و فرض الامن الضروري للنشاط التجاري. و هذه الدولة لن تكون سوى دولة الحماية الفرنسية, التي استغلت ازمة الطبقة الاقطاعية الحاكمة, لاستعمار المغرب, و تعريضه للاستغلال الرسمالي و النهب الكولونيالي.
3- نشوء البرجوازية التجارية المغربية :
لقد ارتبطت النشاة التاريخية للبرجوازية التجارية المغربية في القرن التاسع عشر, ارتباطا عضويا بالاقطاع المخزني الجديد, من جهة, و بالمؤسسات التجارية الراسمالية الاوربية من جهة اخرى, فالاقطاع المركزي الذي كان يحتكر التجارة الخارجية مع اوربا قبل المعاهدة الانجليزية لسنة 1856, كان محتاجا لوكلاء تجاريين, يقومون بدور الوساطة مع الشركات التجارية الاجنبية, و بعض هؤلاء هم الذين ستتشكل منهم لاحقا النواة الاولى للبرجوازية التجارية. كذلك, فان نقل حبوب و اصواف و جلود الفلاحين الى اوربا, و تسويق الشاي و السكر و الالبسة المصنعة و الشموع و الصابون … المستوردة من الخارج, داخل البادية المغربية, مسالة لا يمكن تصورها بدون وسطاء محليين, و هؤلاء الوسطاء هم الذين سيشكلون النواة الثانية للبرجوازية التجارية المغربية.
ان هذه البرجوازية التجارية الناشئة, قد لعبت دورا اساسيا في نشر البضائع الراسمالية الاوربية داخل البادية المغربية, و هي من اجل هذا الغرض, قد استغلت جميع الوسائل الممكنة, بما فيها التقليدية منها مثل : القوافل و الاسواق القروية الصغرى و المواسم.. و لان وجودها التاريخي قد ارتبط اصلا بانفتاح المغرب على التجارة الاوربية الحديثة, فبالتالي, كان كلما تعمق ذلك الانفتاح, الا و صاحبه نمو و رسوخ لراسمالها التجاري .. فمنذ مطلع السبعينات من القرن الماضي, كانت قد تمكنت من مراكمة راسمال تجاري هام, سمح لها بتاسيس مؤسساتها التجارية الخاصة بعين المكان, الذي كان يعتبر حينئذ الموطن الاصلي لصناعة النسيج في العالم, الا وهو بريطانيا. هكذا مثلا, في سنة 1871 كان عدد مؤسساتها التجارية العاملة في لندن و مانشيستر 12 مؤسسة. كما ان هذه المؤسسات كان لها وكلاء تجاريون في اهم المناطق الانجليزية المشهورة بصناعة النسيج. و في نهاية القرن اصبحت البرجوازية التجارية المغربية تتوفر على رسمال بالغ الاهمية. ان المصادر الاساسية التي سمحت لها بمراكمة ذلك الراسمال, هي, عدا مصدر الربح التجاري نفسه, العائد الى النشاط التجاري في حد ذاته, اربع مصادر اخرى :
1- الربا : ان تراجع الاقتصاد الطبيعي امام تطور الاقتصاد التبادلي في البادية المغربية, و خاصة في المناطق المجاورة للمدن الموانىء .. ادى الى تقوية دور النقود. و الفلاح الذي اصبح مندمجا في الاقتصاد النقدي, يجد نفسه معرضا باستمرار لضغط الحاجة الى النقود … و هذه النقود التي يسيطر عليها التاجر, لن يقرضها للفلاح الا مقابل معدل للفائدة جد مرتفع, يصل الى 360 في المائة سنويا. و هذا الاستغلال الفضيع للفلاح المغربي من طرف التاجر, يتم بتزكية المؤسسات الشرعية للدولة : ذلك ان العادل هو الذي يشرف على العقد بين الدائن و المستدين, و القاضي يتولى دور المصادقة عليه.
2- الريع العقاري : عن طريق الربا يحصل الفلاح على قروض من التاجر. و حينما تاتي فترة الاستحقاق, و يجد الفلاح نفسه عاجزا عن تسديد ديونه بسبب سوء المحاصيل الزراعية, فانه يضطر الى التنازل عن جزء من اراضيه للتاجر, الذي يصبح بالتالي شريكا في الملكية العقارية .. و عندما تتكرر المسالة, يتم ازاحة الفلاح و تحويل الملكية بكامله الى التاجر .. لكن في غالب الاحيان, يحتفظ التاجر بالفلاح كمجرد مزارع, مقابل دفع كراء الارض في شكل ريع يقدم للتاجر .. بهذه الطريقة, تم تمركز الملكية العقارية في ايدي البرجوازية التجارية المغربية في معظم المناطق القروية القريبة من المدن – الموانىء في نهاية القرن.
3- المضاربة على العقارات الحضارية : ان انفتاح المغرب على التجارة الاوربية, قد فرض على الشركات التجارية الاوربية ارسال و كلائها التجاريين الى المغرب للاقامة في عين المكان. ان هذه الاقامة تقتضيها وظيفة الوكلاء, التي تتحدد في : المتاجرة مع المغاربة, استقبال البضائع و شحنها, تحديد قيمة الرسوم الجمركية ..
ان مجيء هؤلاء الوكلاء التجاريين الى المغرب, قد خلق بدوره حاجيات جديدة, تتمثل في : بيوت للسكنى – محلات للتجارة – فنادق لاستقبال البضائع و تخزينها … ان هذه الحاجيات الجديدة قد عملت على تنشيط حركة البناء, مما سمح للبرجوازية التجارية المغربية بالقيام بالمضاربة على الاراضي العقارية, التي كانت تجني منها ارباحا كبيرة (ان النشاط العقاري بلغ مستوى من التطور الى الحد الذي اصبحت فيه صحافة طنجة تخصص اركانا قارة بالاعلانات عن عمليات البيع و الشراء و الكراء للممتلكات العقارية).
4- اخضاع الصناعة التقليدية : لا يمكن تصور تجارة كبرى مع اوربا عبر المدن الساحلية, بدون ازدهار المهن الخدماتية, مثل : الحمالين – الباعة المتجولين – الوسطاء – اصحاب فنادق السلع – اصحاب المقاهي و المواد الغذائية, الخدم … و كذلك بدون ازدهار الحرف الصناعية : النجارة و الحدادة المرتبطتين بحاجيات السفن – صناعة الحصائر – تلفيف الاصواف المعدة للتصدير – صناعة المواد الاستهلاكية للاستجابة لحاجيات السكان الذين يتزايد عددهم استمرار بفعل تاثير التجارة ..
ان البورجوازية التجارية, ستجد في مراقبتها و سيطرتها على الصناعة التقليدية النامية, فرصة اضافية للربح من اجل تطوير راسمالها لذلك فهي تعمل على اخضاع الصناع التقليديين للراسمال التجاري, عبر وسيلتين رئيستين : التحكم في المواد الاولية التي يحتاج اليها الصانع – و التحكم في تسويق منتوجاته. و اذن, فكما ان احتكارها للمال ادى الى افلاس الفلاح بواسطة الربا, و نزع منه ارضه و تفؤيتها للتاجر الذي اصبح يستغله عبر استخلاص الريع العقاري في شكل كراء لتلك الارض. فكذلم, ان تحكم البورجوازية التجارية في المواد الاولية و في التسويق, قد جعل الصانع خاضعا للاستغلال بسبب تعرضه لسيطرة التاجر على فائض انتاجه في شكل ربح تجاري. ان البورجوازية التجارية المغربية التي ارتبط وجودها العضوي انفتاح المغرب على التجارة الاوربية, و التي لا يمكن بالتالي تصور امكانية تطور مصالحها في تلك المرحلة التاريخية, بمعزل عن التجارة الخارجية الاوربية, ستجد اذن في الحماية الفرنسية على المغرب, الاطار التاريخي الامثل لتنمية راسمالها, نظرا للافق الجديد الذي ستفتحه امام انشطتها التجارية. من هنا, بالاضافة الى الاقطاع الجديد الذي لم يجد حلا اخر لازمته الطبقية سوى القبول بالحماية الفرنسية, فان البورجوازية التجارية المغربية بدورها مثلت القوة الاساسية الثانية في الداخل, التي دافعت عن الاختيار الاستعماري الكولونيالي. و هنا يطرح علينا التساؤل الاساسي : هل الاختيار الاستعماري الكولونيالي, حامل مشروع النظام الراسمالي الطرفي, كان الاختيار الوحيد الممكن في تلك الظروف, و ان أي اختيار وطني تقدمي بديل, كان مستحيلا ؟
اذا نظرنا للمسالة من زاوية التاريخ المادي الفعلي, زاوية القوى الاجتماعية الواقعية, لا من الزاوية السياسية المثالية المجردة .. فيمكن القول ان ذلك الاختيار كان الاختيار الوحيد الممكن تاريخيا. لماذا ؟
في نفس الفترة التاريخية التي تعرض فيها للضغط الامبريالي تعرض اليابان هو ايضا لنفس الضغط. و مع ذلك استطاع اليابان ان يشق طريقه بعد ثورة 1867 بقيادة الامبراطور ميجيه, نحو بناء نظام وطني راسمالي مستقل, بينما عجز السلاطين المغاربة : عبد الرحمن و محمد و الحسن الاول عن نهج نفس الطريق. ما هو سر ذلك ؟ هل السلاطين المغاربة كانوا اقل غيرة على بلدهم من زملائهم اليابانيين ؟ ان الصراعات الديبلوماسية التي خاضوها ضد مختلف القوى في تلك الفترة, تبين العكس. و هل عقليتهم الثقافية كانت عقلية متزمتة ؟ ان السلطان محمد مثلا, كان معروفا باهتمامه بالعلوم الحديثة و اتقانه للغة الانجليزية, و الى حد ما, الفرنسية. كما انه هو و الحسن الاول, قد قاما بمجموعة من المحاولات الاصلحية (البعثات الثقافية للطلبة المغاربة الى جميع انحاء العالم, بما فيها الولايات المتحدة الامريكية – الجيش – الادارة, و خاصة الجانب المتعلق بمالية الموانىء التجارية – انشاء بعض الصناعات الحديثة ..). و اذن, فان سر ذلك لا يمكن البحث عنه في الاشخاص, او في سياساتهم المجردة, بل الواقع المادي للمجتمع المغربي لتلك الفترة. ان مستوى التطور المادي لذلك الواقع في لحظة التصادم مع اوربا الراسمالية, لم يكن يسمح بنهج اختيار راسمالي وطني مستقل, كما حصل في اليابان.
بالنسبة للحالة اليابانية, ان النظام الاقطاعي الياباني, الذي كان نظاما عتيقا, قد دخل في مرحلة التفكك منذ نهاية القرن السادس عشر. ان هذا التفكك قد عبر عنه قانون الاصلاح للنظام العقاري, و هو الاجراء المعروف باسم “الكنشي”, و الذي شرع في انجازه منذ سنة 1582, حيث اصبح شاملا لمجموع الاراضي الاقطاعية في القرن السابع عشر في عهد الامبراطور تايكو هيديسكو. و مع بداية تفكك النظام الاقطاعي, حصل نوع من التحرر بالنسبة للفلاحين, مما مكنهم من السيطرة على جزء من فائضهم الاقتصادي استعملوه كاستثمار لتحسين شروط الانتاج. ان تطور قوى الانتاج هذا, قد سمح للفلاحين, بالتالي, بتحويل انتاجهم الفائض الى سلعة يتم تسويقها في الاسواق المحلية. هكذا, اخذ يتحول الاقتصاد الطبيعي الى اقتصاد نقدي. و هكذا, بدات تتطور الصناعة التقليدية, و كذلك, بدات تتطور البورجوازية التجارية اليابانية بارتباط عضوي بالانتاج المحلي المتنامي. و في نهاية القرن السابع عشر (عهد كنروكو), وصل تطور الانتاجية في الزراعة درجة مكنت الفلاحين من انتاج كميات هائلة من الارز الذي كان يحول الى سلعة و نقود في اسواق المدن المتنامية. و على اساس ذلك التسويق, و ما صاحبه من تحريك للنشاط الاقتصادي العام, ظهرت مدن ضخمة من حيث السكان, اذ منذ القرن السابع عشر بلغ عدد سكان مدينة طوكيو (التي كانت تسمى في ذلك الوقت بيدو) مليون نسمة, و مدينة كييطو اربعمائة الف نسمة, و مدينة اوزاكا 350000 نسمة. و في نفس السياق, حصل تطور كبير للصناعات الحرفية من طبيعة المانيفاكتورة الراسمالية. ففي المناطق المشهورة بصناعة النسيج وحدها, مثل : كيريو – اشيكاكا – هاكاتا – بلغ عدد تلك الوحدات الصناعية, الاف وحدة.
لقد كان المجتمع الياباني اذن قيل وقت طويل من بداية الضغط الامبريالي, يتطور في اتجاه الراسمالية. و كانت القوى الاجتماعية الاساسية, حاملة المشروع الجدي, تتكون ممن الفلاحين الذين احرزوا على بعض التحرر من الاقطاع, من جهة, و من جهة اخرى, من الصناع الصغار و المتوسطين. فتطور الفلاحين الاحرار ادى الى بداية الانقسام الاجتماعي في صفوفهم, و ظهور الفلاح الغني الراسمالي و الفلاح الفقير المتحول الى عامل زراعي. كما ان نفس العملية بدات تتم على صعيد الصناعة الحرفية, بظهور المانيفاكتورا, التي تربط الصانع الراسمالي العامل الماجور. لذلك فان التناقض الاساسي الذي بدا يمزق المجتمع الياباني في ذلك الوقت, هو بين تلك القوى الاجتماعية, حاملة المشروع الراسمالي, و بين الاقطاع و البورجوازية التجارية الكبرى اللذين كانا يتحكمان في جزء هام من الفائض الاقتصادي, على شكل ريع بالنسبة للاقطاع, و ربح تجاري بالنسبة للبرجوازية التجارية.
و بالتالي, حرمان القوى الرسمالية من الاستفادة منه في مجال الاستثمار لتنمية الرسمال الصناعي و الزراعي. ان تطور ذلك التناقض, كان سيؤدي بالضرورة, الى قيام ثورة راسمالية راديكالية من طراز ثورة القرن السابع عشر في انجلترا. و ثورة القرن الثامن عشر في فرنسا … تطيح بالاقطاع و البرجوازية التجارية الكبيرة. لكن هذا لم يحدث بسبب تدخل عنصر المسالة الوطنية : فالضغط الاوربي سمح بقيام مساومة سياسية بين الطبقات المتناحرة, ادت الى خلق وحدة وطنية, من خلال التضحية بالجوانب الاكثر تخلفا في النظام القديم, مثل الغاء الريع العقاري (لكن مقابل التعويض للاقطاعيين) و الراسمال التجاري الاحتكاري, ثم مركزة الفائض الاقتصادي في يد جهاز الدولة الذي سيتولى مهمة توجيه الاقتصاد. هكذا, ستتمكن الوحدة الوطنية من مص طاقات الصراع الطبقي للقوى الراسمالية الراديكالية, و تحويلها الى طاقات للصراع الوطني ضد القوى الاجنبية, ان جوهر ثورة ميجي سنة 1867, لم تكن شيئا اخر غير هذا. و اذا كانت الدولة المركزية اليابانية قد لعبت دورا كبيرا في تطور النظام الرسمال, فبالضبط, لانها استندت على قوى اجتماعية راسمالية, كانت موجودة سلفا في المجتمع. فالدولة لا يمكن لها ان تصنع شيئا من فراغ. اما بالنسبة للتجربة المغربية, فانها تختلف جذريا عن اليابان.
فالنظام الاقطاعي المغربي لم يصل الى مستوى النضج الذس وصله زميله الياباني. كما ان المجتمع المغربي لم يعرف بزوغ قوة اجتماعية ذات مشروع راسمالي في صفوف الفلاحين و الصناع, و البرجوازية التجارية المغربية, لم تربط ظهورها و تطورها بالسوق الداخلية, كما وقع في اليابان, بل بالانفتاح على التجارة الاوربية. لذلك فهي لم تساهم في خلق وحدة وطنية لمواجهة القوى الخارجية, بل بالعكس, كانت متلهفة على الارتماء في احضانها. لكن خارج الاقطاع الجديد و البرجوازية التجارية اللذين قبلا الحماية الفرنسية, كانت هناك قوى اجتماعية مغربية رافضة, و ضمنها تلك التي سار على راسها السلطان عبد الحفيظ في مطلع القرن العشرين.
4- جوهر الثورة الحافظية :
في سنة 1907 استطاع عبد الحفيظ ان يلف حوله معظم القوى الاجتماعية المعارضة للوجود الفرنسي في المغرب, و يقود حركة مسلحة واسعة, ادت الى الاطاحة بالسلطان عبد العزيز و اعتلاء عبد الحفيظ العرش مكانه.
ماذا تمثل هذه الثورة الحافظية ؟ انها تعبر في جوهرها عن التناقض بين الاقطاع الجديد الذي اندمج في التجارة الاوربية, و ربط مصيره بمصيرها ( و تمثله الدولة المخزنية), و بين الاقطاع القديم الذي ظل, بوجه عام, معزولا عن التيار التجاري الاوربي (و تمثله القوى الاقطاعية الاقليمية). فالصراع اذن, كان داخل نفس الطبقة الاقطاعية الواحدة, لكن بين اتجاهين مختلفين, بسبب اختلاف مواقعهما من التجارة الاوربية. لذلك, فالقوى الاجتماعية الاساسية التي وقفت وراء حركة عبد الحفيظ و دعمتها. كانت تتكون من اقطاع الجنوب و الريف والزاوية الكتانية القوية. بل ان ثورة عبد الحفيظ قد انطلقت في بدايتها, من عاصمة الجنوب مراكش نفسها, حيث تقررت هناك مبايعته, و نزع البيعة عن السلطان عبد العزيز. غير ان الثورة الحافظية استطاعت كذلك, ان تكسب لها فئات اخرى كانت مرتبطة بالاقطاع الجديد المركزي, و التي تضررت من جراء تبعات الانفتاح على التجارة الاوربية. و هذه الفئات الاجتماعية هي :
أ- العائلات المخزنية التقليدية : لقد كانت هذه العائلات تاريخيا, هي المسؤولة عن تنظيم قبائل الجيش, كما انها هي التي كانت تمد جهاز الدولة بالاطر الادارية.
لكن هذا الوضع سيتغير تحت تاثير الاصلاحات المحدثة بالنسبة للجيش. فقد خضع لاربع اصلاحات :
– على مستوى الانتساب (اصبح الانضمام يتم خارج قبائل الجيش) ..
– تكوين الجنود في اوربا
– تكليف تقنيين عسكريين اوربيين للاشراف على التداريب ..
– شراء اسلحة جديدة متطورة.
ان هذه الاجراءات ستقود الى خلق جيش من طراز جديد, مختلف تماما عن الشكل القديم القائم على قبائل “الجيش”. و هذا الجيش الجديد الذي اصبح يسمى “العسكر”, هو جيش نظامي محترف, يتقاضى العاملون فيه مرتبات مالية قارة.
بالنسبة للادارة, ان تعاظم نفوذ البرجوازية التجارية و ظهور نخبة مثقفة جديدة, سيكون من شانه اخضاع ادارة الدولة لهذه القوى الجديدة. و ان ذلك الاخضاع سيصبح شاملا في عهد السلطان عيد العزيز, بالخصوص.
من هنا يتضح ان العائلات المخزنية التقليدية, قد خسرت على الواجهتين معا, العسكرية و الادارية. و هذا هو سبب معارضتها للسلطان عبد العزيز, و انضمامها للحركة الحافظية.
ب- النخبة التقليدية : هذه النخبة التي تتكون اساسا من العلماء المرتبطين بجامعة القرويين, و بالجهاز القضائي, ستعرف تقلصا في نفوذها امام صعود نخبة حديثة, و امام تجاوزات السلطة للشرع المالكي, و تقوية النزعة الاستبدادية لديه.
ان معارضتها لنظام عبد العزيز, كانت تنطلق اذن, من الدفاع عن مطلب العودة الى الشرع و الى الشورى, و هو المطلب الكفيل بضمان مصالحها الخاصة كفئة اجتماعية, لها ارتباطات بالنظام الاقطاعي.
من هنا, فمطلب الدستور, الذي رفعته بعض الجهات في ذلك الوقت, مثل الصحافيين السوريين في طنجة, و المثقفين المغاربة العائدين من الشرق, و المتأثرين بالتيارات الفكرية الإصلاحية الرائجة في مصر و سوريا وتركيا .. هذا المطلب الدستوري لم يكن يعبر عن صعود فئة ليبرالية داخل المجتمع، بل كان مجرد تأطير في شكل ليبرالي لمضمون تقليدي في جوهره، هو مطلب الشرع و الشورى، الذي كانت تنادي به نخبة علماء القرويين و الجهاز القضائي.
الخلاصة الني نريد التأكيد عليها مما سبق، هي أن جوهر الصراع بين عبد العزيز و عبد الحفيظ، كان قائما على التناقض بين قوى الإقطاع الجديد، الذي اندمج في التجارة الأوروبية، و أصبح قابلا بالحماية الفرنسية للمغرب، و بين الإقطاع القديم الذي لم يعرف تلك الدرجة من الاندماج، و الذي كان يطمح للحفاظ للمغرب على وضعه السابق الما قبل الانفتاح على التجارة الأوروبية.
و من زاوية التاريخ، لقد كانت الثورة الحافظية في تلك الشروط، طوباوية تماما. و هذا ما أكده فعلا مجرى الأحداث السياسية – إذ بمجرد ما وصل عبد الحفيظ إلى الحكم، حتى وجد نفسه مضطرا للتراجع عن البرنامج السياسي الذي قامت عليه حركته في البداية، و تبنى نفس برنامج عبد العزيز الذي أطيح به .
جريدة انوال عدد 13 فبراير 1986 ص8