يرتبط الألم عادة بالجانب العضوي في الإنسان، أي: آلام جسمية. وترتبط المعاناة بالجانب السيكولوجي، أي: المعاناة النفسية. وجرت العادة أيضا ربط الألم بالجانب السيكولوجي، فنقول: آلام نفسية.
وهذه الآلام النفسية هي ذات طبيعة انفعالية من اكتئاب وحزن وغيرهما. ولكن تبقى لهذه الآلام السيكولوجية ارتباطات بالطبيعة العضوية للإنسان. إذ تثبت الدراسات العصبية أن كثيرا من التركيبات الكيماوية تعمل على التعديل الهرموني لطبيعة الانفعالات النفسية التي نشتكي منها. يذهب التصور الفينومنولوجي-وصف الظواهر المدركة في الوعي الإنساني-إلى تجاوز هذه الصراعات المنهجية في دراسة الظواهر السيكولوجية بين العلوم العصبية والسيكولوجيا إلى وصف الظاهرة النفسية في ارتباطها بأشكال التعبير الجسمي، وليست هناك من ظاهرة نفسية لا نجد لها تعبيرا جسميا.
ولهذا، يمكن التمييز بين الألم الجسمي وهو ألم طبيعي والألم الجسدي وهو ألم عاطفي انفعالي “سيكولوجي”. ما المقصود بعبارة: “أنا أتألّم من أجلك”، عندما ترى شخصا طريح الفراش من المرض ولا يجد إمكانات التطبيب والعلاج، أو امرأة عجوز ينوء ظهرها من ثقل حمل البضائع والأمتعة للذهاب بها إلى السوق لبيعها أو مجرّد نقلها من تاجر إلى تاجر، أو أطفالا يتضوّرون جوعا وبردا في أيام الشتاء الحالكة، أو شابا وشابة يخاطر بنفسه في عرض البحر ليهاجر وطناً لم يعد يجد فيه ما يأويه من خوف ويطعمه من جوع؟ أكيد: العبارة التي تحمل المعنى العامي المتداول والشائع للتعبير عن المواساة، ليست تلك العبارة العربية المهذّبة، بل هي العبارة الآتية: “قلبي كيتقطّع عليكم”، وباللغة العربية: “قلبي يتمزّق من الألم عليكم” أو “قلبي ينفطر حزنا عليكم”.
هنا، يظهر هذا “الجسدي” الخفي في التعبير عن الآلام. يتساءل الفيلسوف الألماني المعاصر مارتن هيدجر في لقاءات “ثور”Les séminaires du thor (1966-1968-1969) عن المعنى الذي نقصده باستعمالنا كلمة: “جسدي”، فهل المقصود به، هذا، الجسم الذي حدوده الجلد والذي به نقيس مسافتنا بالأشياء حولنا؟ كقولنا: “كان القمر ليلة البارحة أدنى منِّي أو من مدينة اللّوفر”؟ أم المقصود به هذا الجسم-الحياة، الذي حدوده أعقد وأصعب على التحديد؛ فهو بالتأكيد “جسد خاص” لا يحدّ بالعالم الممتد المادي، وأيضا ليس بالعالم المحيط الذي نستعمله ونتبادل معه انشغالاتنا اليومية، والحامل لدلالات تتجاوز حدود التماس الحسي.
يستعصي علينا فهم كلمة “جسدي” إذا لم نميِّز بين سياقات استعمال الكلمات والعبارات. ففي السياق العلمي الطبي، عندما تقول للطبيب: “يؤلمني جسدي”، يفهم من عبارتك أن جسمك مريض يتطلّب علاجا، فيعاين اختلالات الوظائف الآلية للجسم المادي. وعندما تقول في سياق اجتماعي أو عاطفي “جسدي يقشعر بسماع معاناتك”، و”جسدي يتألم بفراقك”، فالأمر يختلف عن أحاسيس الجسم المادي. وفي السياق الديني عندما تقول بائعة الهوى أيّام شهر رمضان “سأصوم إيمانا واحتسابا”، و”سأغتسل لأصلي”، عندها تميز بائعة الهوى بين جسد للبيع وجسد للعبادة؛ فالجسد الأول، هو هذا اللحم الذي يحتويه الجلد الباعث على أحاسيس تثير الوظيفة البيولوجية الجنسية ومصيره الفناء، والجسد الثاني هو هذا الجسد الذي يسكن اللغة الإيمانية. يذهب هيدجر إلى التمييز بين ” الجسد” وبين “الجسم”، (Leib) و(Körper) ، على سبيل التّمثيل لا الحصر، حين أضع نفسي في ميزان قياس الأوزان الجسميّة فإنّني لا أقيس وزن الجسد العاطفي أو الاجتماعي، ولكنني أقيس وزن الجسم المادي فقط. يستمدّ هيدجر أصول هذا التصور الفلسفي للجسم من التصوّر الفينومنولوجي-الظاهراتي- لهوسرل، والذي يعدّ المهندس الفعلي لهذا البناء المعماري التأملي لأوضاع الجسم الإنساني وعلاقته بالإدراك والوعي والعالم.
وإذا كانت تأملات الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل قد ظلّت محكومة بنزعة سيكولوجية لا تفارقها الإحراجات السابقة المتعلقة بالعلمي الموضوعي والنفسي المعاش، فإن هيدجر تجاوزها جذريا بربط الجسم ببعد يتجاوز الوعي والإدراك نحو نمط وجود الكائن الإنساني في العالم الذي ينشأ عن الإحالات الدّالة على استعمال أشيائه، أي: باللغة. وهنا، لا أدري ما العلاقة بين أطروحة إرنست كانتوروفيتش Ernst Kantorowiczالتي ميّزت بين نمطين من الجسم، الجسم الطبيعي والجسم السياسي، وأطروحة الفينومنولوجيين ومن بينها أطروحة هيدجر عن التمييز بين بين جسم-الطبيعة وجسم-الوجود. ولكن هناك تقارب كبير في استثمار التمييز بين الجسمين، ولهذا سنقف عنده في السياق السياسي. ففي السياق السياسي، عندما يصرِّح الملك مخاطبا شعبه: “إني أتألم من أجلكم”، فأي جسم يتألّم؟
كان إرنست كانتوروفيتش Ernst Kantorowicz المختص بدراسة تاريخ العصور الوسطى، قد نشر كتابا في سنة 1957 بعنوان: ” The King’s Two Bodie “، “ثنائية الجسم الملكي”، كشف فيها عن تصوّر اللاهوت السياسي للملكية من خلال الإجابة على السؤال الآتي: كيف تستمر الملكية رغم موت جسم الملك؟ فميّز إرنست كانتوروفيتش بين نوعين من الجسم: الجسم الطبيعي والجسم السياسي. الأوّل، يمتلك صفات جسمية “يتألّم” ويعاني ويموت ويفنى كما يموت كل البشر؛ والثاني، أي الجسم السياسي، هو جسد روحي خالد يتخطّى العالم المادي ويحمل دلالة رمزية تنتجها أدبيات الحق الإلهي في الحكم. أي: جسم تبدعه اللغة اللاهوتية عن “قداسة شخص الملك”؛ لأنه الحافظ لسنن الله (=شريعته) في تدبير العمران والوصي على خَلقه.
وهذا التقسيم هو الذي ضمن استمرارية الملكية في العصور الوسطى والعصر الحديث أيضا. والجسد السياسي الرمزي لا يمكن رؤيته لأنّه مجموع القوانين والشرائع والأعراف والتنظيمات التي تدير الحكم وشؤون الشعب. ولهذا فأعطاب الجسم الملكي الطبيعي من أمراض وشيخوخة وغيرها لا يمكن أن تعرقل السير العام للمؤسسات. والعلاقة بين الجسمين علاقة جدلية تقوم على صراع داخلي بين جسم الإنسان الطبيعي الذي تحكمه الطبيعة البشرية الهشة التي “تتألّم” فعلا، وبين الجسد السياسي الذي تحكمه النظم والتشريعات ويتجاوز هشاشة الطبيعة البشرية، و “لا يتألمّ”، بل يتوسّع ويزداد قوّة وصلابة. ومن وجهة نظري، فإن الملكيات التي لم تحسم في طبيعة الصراع بين الجسمين، الجسم الطبيعي الذي “يتألم” فعلا، وبين الجسد السياسي الذي يتجاوز آلام الجسم الطبيعي بإصلاحات تشريعية ومؤسساتية جريئة وشجاعة تحفظ سلامته الصحية الخالدة، تترك مساحة الصراع مفتوحة للمجهول.