ربط الاندماج بالموعد الانتخابي منطق سليم واحتساب عقلاني للزمن السياسي. ففي كل الدول التي تعيش حياة سياسية قائمة على التعددية الحزبية وعلى تشكيل الحكومة من الخريطة الأغلبية في البرلمان، تصبح المؤسسة النيابية بمثابة الرحم، الرحم الجاذب لعناصر إنتاج السياسات العمومية، الرحم الجاذب للمنتخبين الذين يبذلون جهد التنافس للتموقع في الرحم التشريعي. تصبح الانتخابات، إذن، بمثابة فترة الإخصاب. بل، تمثل فترة الانتخابات فترة الخصوبة السياسية في أعلى درجاتها.
هنا نتوقف عند مفصل التحول من التحالف الحزبي إلى الحزب الواحد المندمج بين الأحزاب الثلاثة المكونة لفيدرالية اليسار. وهو القضية المطروحة للنقاش اليوم.
لدينا برنامجان:
برنامج الحزب الاشتراكي الموحد: أي أفق؟ الجواب أفرزه المؤتمر الرابع بداية 2018. أفق جديد ضمن تمثيلية نسبية لتياري الأقلية في المجلس الوطني، ولتيار اليسار المواطن والمناصفة في المكتب السياسي.
برنامج الانتقال من التحالف الانتخابي إلى الاندماج في حزب واحد.
لنترك البرنامج الأول الخاص بالاشتراكي الموحد إلى حين. لدينا على الطاولة الانتقال من التحالف الانتخابي إلى الاندماج في حزب واحد. ولدينا الغلاف الزمني الذي لا يفصلنا عن الانتخابات سوى سنة واحدة. إذن، نحن لسنا فقط بين المطرقة والسندان. بل بين المطرقة والسندان في فصل الصيف الخصم اللذوذ لمهنة صناعة المناجل السياسية. ما نواجهه إذن:
– تناقضاتنا الداخلية في الاشتراكي الموحد،
– ضغط اقتراب الانتخابات وبين
– نقاش عام حول الاندماج بلا شبكة قراءة دقيقة. سواء شبكة قراءة لتقييم التحالف الانتخابي، أو شبكة قراءة لضبط الاندماج في برنامج قاعدي متسلسل صاعد يضم الحلقات التنظيمية والقطاعية والاشعاعية والتعبوية والاستقطابية.
العلاقة بين الضغوط الثلاثة المذكورة يشعر بها كل واحد منا ويفسرها او يؤولها أو يتخذ منها موقفا سلبيا أو إيجابيا، لكن من موقعه وحسب تجربته مع الاندماجات السابقة. أما تجربتي الشخصية ويشترك معي فيها – في حدود معلوماتي الشخصية طبعا- جواد الديوري، فيها أربع اندماجات. أولها الاندماج في الحياة السياسية العلنية بعد تجربة سرية منظمة 23 مارس.
حصيلة التحالف الانتخابي، توزيع الدوائر بين الأحزاب الثلاثة: 42 مرشح من الاشتراكي الموحد أفرزوا برلمانيين اثنين. 30 مرشح من المؤتمر الاتحادي بلا نتيجة. 20 مرشح من الطليعة بلا نتيجة.
إذا بدأتُ بالنقد الذاتي للاشتراكي الموحد، يمكننا التساؤل: لماذا لم نستطع أن يكون لنا من بين كل 10 مرشحين أن يصبح لنا واحد برلمانيا كتحدي برنامج حد أدنى؟ الحصيلة هي 4 برلمانيين. وبنفس الروح، وحتى لا أكون مازوشيا جالدا للذات من المفترض استكمال النقد الذاتي بالنقد للحزبين الشقيقين: بنفس الحساب، كان من حق الفيدرالية أن تطالب من المؤتمر الاتحادي أن يتخذ هدفه الانتخابي الحد الأدنى واحد برلماني بين كل عشرة مرشحين، أي ثلاثة برلمانيين. وبنفس المنطق برلمانيين اثنين حد أدنى من المردودية الانتخابية لعشرين مرشحا طليعيا.
هنا نخرج من حساب الحقل لننتقل إلى حساب البيدر. حساب البيدر هو تقنيات الدرس والدراية. هذه العمليات تكون في المكاتب الانتخابية، تحرص السلطة على استحكام التصويت والفرز. وعندما تعلق الأمر بالاستفتاء على الدستور الحالي كان القايد يقترح بالواضح على رئيس المكتب كي يكتب الرقم الفلاني بدل الرقم كنسبة مشاركة الناس.
علاقة الناخبين المرتبطين بالأحزاب الثلاثة علاقة مختلفة من حزب لآخر: الاشتراكي الموحد تمتد صلة مكوناته بالانتخابات، بعض مكوناته إلى 1963. بينما تكون الطليعة ضدا على التوجه الانتخابوي في الحركة الاتحادية. ومن جهته، يركز المؤتمر الاتحادي في سياساته على المردودية المؤسساتية لفائدة كدش.
هذه الزاوية الانتخابية المحضة ليست كافية والاعتماد عليها منفردة غير سليم. يجب الرجوع إلى الحجم الكمي للبنيات التحتية للأحزاب الثلاثة. بالتأكيد سيشكل الضم الطوعي لكل ممتلكات ولكل مؤسسات الأحزاب الثلاثة وضعا حزبيا مختلفا من الناحية المجردة.
أين تكمن العتبة النوعية بين حالتي التحالف والاندماج؟
هناك زخم المناضلين الذين لا يصيبهم العياء من الكفاح المتواصل في مختلف الواجهات. لكن العطب الأول الذي يصيب النفسية التنظيمية هو ما يمكن تسميته بالامتداد العائلي للعلاقات الممتدة سنين بين رفاق ورفيقات امتزجت حياتهم التنظيمية وأصبح التنظيم الحزبي كل شيء بالنسبة لهم: فيه الرفاقية والصداقة والارتباطات المعيشية وأجندة 24 ساعة في العمل والمقر والمقهى وقضاء الأغراض المعيشية التفصيلية. لدرجة تجد كل فرع حزبي يكاد يتشكل اجتماعيا من مجموعات أصغر منسجمة أكثر من الانسجام المفترض داخل الحزب ككل. هذا الانقسام/التشابك سلاح ذو حدَّيْنِ.
يوفر تقنية تسهل التعبئة في الأنشطة والمهام النضالية، بحرارة إنسانية أكثر ارتفاعا. ولكن برودة المناخ العام الحزبي تحول تشكل الفرع من مجموعات إلى قابلية هشة تكسر العمل التنظيمي الواحد وهو ما يصيب العمل الحزبي لحظات الخلاف بما يمكن اعتباره الشلل الجزئي.
الحياة الحزبية لا تسير بالتوجيهات المكتبية المكتوبة في محاضر اجتماع أو عبر خلاصات نقاش في مجالس الفروع. الحياة الحزبية تجسد نوعية الإنسان الذي يجد نفسه في موقع القيادة المحلية. وعندما تذكر نوعية الإنسان لا مجال فيها للتناظر التفضيلي ولا موازنة فيها بين الأفراد. تلك منهجية أصبحت المعلومات الجديدة تبين أنه لا مجال للتمييز بين أعضاء أية مجموعة كانت بمعيار الجيد والرديء. بل، يمكن التأكيد أن القيادة المنتجة لفعالية العمل الجماعي هي التي تشتغل بإيقاعات متنوعة تكاد تصل في عدد تنوعها رقم أفراد المجموعة أنفسهم.
من فرد إلى فرد، تختلف العادات الشخصية والاهتمامات التفصيلية ونوعية التعامل مع الغلاف الزمني ومحفزات العطاء إلى الدرجة القصوى أو الاستنكاف المزمن. في آخر المطاف، قد يحتل أعضاء الحزب مواقع مهنية أو تأطيرية أو قيادية في مؤسسات خارج الحزب رسمية أو مدنية. وقد لا يستطيع الحزب رؤية فعاليتهم في تلك المواقع. وبالتالي لا يساعد المجتمع على رؤية تميزاتهم. ويستخلصون أن انتماءهم الحزبي لم يستثمر تلك القابلية والجهوزية التي عقدوا العزم على بذلها لفائدة المجتمع من خلال عضويتهم الحزبية.
أضع أمامكم مناسبتان:
مناسبة عرض أعضاء الحزب في قطاع الصحة للأوضاع المهنية التي يشتغلون فيها. وقد كان التحضير رائعا جهنميا داخل المقر. عملٌ بتلك الجودة، أصبح من حق الناس في المدينة أن يتصالحوا مع قطاع الصحة العمومية في قاعة عمومية من خلال عرض تلك الجهود التواصلية التي بذلها أعضاء الحزب في قطاع الصحة. علما أن مفصلية التخصصات التي يشتغل بها أعضاء الحزب في المستشفى الجهوي من المفروض أن تجعل الحزب من خلال مناضليه في هذا القطاع، كما ونوعا، الحزب المؤطرالأول في قطاع الصحة. في غياب هذا الحد الذي وقفنا فيه يستطيع متحزبون آخرون أن يستفيدوا من علاقاتهم مع الناس بعلاقات أخرى غير مبدئية بل نفعية مائة في المائة من داخل مؤسسات القطاع. النتيجة سقف الجهد الفردي لمناضلي الحزب بالقطاع أعلى من الاشتغال الحزبي المبدئي لفائدة الناس والحزب معا في أفق فرز اختياراتهم الانتخابية الأنفع للناس وللحزب.
المناسبة الثانية: مناسبة تأسيس فرع السحتريين القروي: مبادرة عبد الغني قد لا يراها البعض ذات قيمة مهمة عدديا، لكنها اختراق نوعي ينبه الرأي العام إلى أن للحزب رؤية للاشتغال في العالم القروي. علما أن الفارق الديمغرافي اليوم بين الوسط الحضري والوسط القروي 66 في المائة في الحضري و34 في المائة في القروي. لكن من حيث الصورة المقروءة عن الحزب في الرأي العام المحلي، فهي تنتزع لدى الناس الاقتناع بقدرة الاشتراكي الموحد على هزم مرشح حزبي أغلبي معه المساجد والدولة أصبحت معه في المدن الكبرى والاستثمار الاحساني الذي يشتغل به في الانتخابات يكمل أساليب الفساد القديمة. مما يعطي نقطة ايجابية نوعية لفائدة الحزب في الفرصة التي فتحها عبد الغني للحزب.
التمفصلات الاجتماعية التي تخترقنا ولا نعطيها قيمتها المؤثرة سلبا على كل مجموعة ديمغرافية، تمفصلات نكرسها فتؤذينا. إن المجتمع المحافظ لا يطلب منا فقط أن نسايره في فشوشه المحافظة. بل ينتظرنا أن نكون قدوة من زاويتنا.
فالشعب يمارس “حداثة ضمنية”. لكنه لا يتساهل مع الانتهازية ولا مع الترفع الاستاذي ولا مع الأخطاء اللغوية التي يسبقنا لساننا بها ونحن نكرر عنف اللغة بالتمييز المتبجح بين المهن وبين الأوضاع وبين والحالات وبين المواصفات القبلية والعنصرية والجسمانية. ولو من باب الهزل، نكرس الايديولوجيات التمييزية الفئوية. ذاك هو الخطاب الذي لا تقبله ذاتية وكرامة أي إنسان. وليس لبوس الخطاب الديني الحربائي.
نمارس السخرية والإهانة والتباهي في مجرد أسئلتنا لأن البعض منا يكون مزهوا بوضعه العائلي أو المهني أو المالي أو الفئوي الطبقي.
عندما نستمع لقادتنا وهم يؤطرون الندوات المفتوحة على الناس، كل منا وهو في موقعه، إما أن يكون نوعيا في ما يتخصص بعطائه، وإما يستنكف.
إن التميز الذي جعل الاشتراكي الموحد يأخذ صورة في الرأي العام أكبر من حجمه التنظيمي، هو النوعية. أما العثرات، فتفضحنا جملة. وتتحول صعوبات وضعيتنا من علامات أزمة نمو إلى مؤشرات أزمة وجود. ولا يريد أحد من اليساريين أن يعمق أزمات النمو المنفرد إلى أزمة وجود جماعي. تلك، هي العقبة الكأداء التي تقف بين موضوعية الاستعداد للاندماج وذاتية القرار الإرادوي للاندماج العاجل. لا نريد للمؤتمر الاندماجي أن يكون فاصلا صاخبا ثم نواصل كيمياء التحلل اليساري.
أخيرا، حكمة الفرنسيين تقول:
Si tu fais quelque chose pour moi , si tu la fais sans moi, tu la fais surement contre moi .