مر زمن غير يسير على آخر صيحة علمية بنفس رافض للإجماع… مر زمن على عبارة أرخت لنهاية ربط العلوم الاجتماعية بالوقائع الاجتماعية، عندما صدح الراحل محمد كسوس بعبارته الأشهر، “إنهم يريدون صنع جيل جديد من الضباع”… قالها ورحل وترك خلفه من لا يعرف للرفض سبيلا، اللهم بعضا ممن جابلوه ونهلوا مما نهل منه علما وقيما…
كلما فتحت “المقدمة” (مقدمة المراكشي وليست مقدمة ابن خلدون.) والتهمت منها بعض الصفحات، وجدتني مرغما على الكتابة. هذا هو الكتاب الملهم. هذا الكتاب يشبه صاحبه ويشبه واقعنا في نفس الآن. لكنه لا يشبهنا بتاتا فهو كتاب شجاع جرئ، ونحن خائفون ومتخاذلون.
أسئلة محرجة، حارقة ومباشرة في زمن قلت، إن لم نقل انعدمت فيه الأسئلة الصعبة وكثرت فيه الأجوبة السهلة، لا أقلها قوة سؤال طرحه المؤلف في فصل عنوانه مثير وهو “القوانين الكافرة”في الصفحة 147، من هو المشرع؟؟ وقبل ذلك ما المقصود بالمشرع؟، إضافة إلى إشكالات جوهرية تم وضعها عمدا في الرفوف لأنها إذا فتحت للنقاش ستفتح معها أبوابا لا تغلق…
ولأن عنوان الكتاب مستفز، لا بد أن الأسئلة التي يطرحها ستكون أكثر استفزازا وإشكالية… منها على سبيل المثال لا الحصر ما يمكن تسميته بالالتباس بين العام والخاص.
الفقرة الثانية في المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية، مضمونها أن مالك العقار يمكنه أن يكون عرضة لضياع عقاره نتيجة تزوير أو تدليس… وإذا انقضت مدة أربع سنوات دون أن يرفع دعوى لاسترداد حقه ضاع منه!! من شرع هذا القانون؟
فعلى خط التماس بين القانونين العام والخاص تحدث التباسات شتى… ولعل السبب الأكبر في هذه الالتباسات وأصلها، هو وهم امتلاك الحقيقة… كل منا يؤمن بالقول المأثور “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، لكن الحقيقة عكس ذلك تماما، فرأينا صواب لا يحتمل خطأ ورأي غيرنا خطأ لا يحتمل أدنى صواب.
لقد مر زمن غير يسير على آخر صيحة علمية بنفس رافض للإجماع… مر زمن على عبارة أرخت لنهاية ربط العلوم الاجتماعية بالوقائع الاجتماعية، عندما صدح الراحل محمد كسوس بعبارته الأشهر، “إنهم يريدون صنع جيل جديد من الضباع”… قالها ورحل وترك خلفه من لا يعرف للرفض سبيلا، اللهم بعضا ممن جابلوه ونهلوا مما نهل منه علما
مر زمن لم نسمع فيه صوتا أكاديميا رصينا يقول لا… يقول إني أختلف أو إني غير متفق!! طبعا لن نطمع في إني أتهم… لقد سادت “النّعم” خوفا عن “النِعم”…
قوانين شتى… ومشاريع تنموية وبرامج ومخططات أعلن فشلها بالجملة والتقسيط ولا أحد تجرأ وقال لا…
الالتباس تصنعه الدولة… نعم الدولة حتى نظل دائما في حاجة لناطقها الرسمي لينير عتمة التباسنا. وما الالتباس إلا ظلمة نلتمس من الدولة إنارة عتمتها… أو لنقل بلغة المراكشي الأقلية المتحكمة … حتى نظل دائما في أمس الحاجة لوجودها رغم كل غطرستها التي تتفنن في ممارستها علينا.
لكن هذا المراكشي فعلها وقال قوله. فيما جرى ويجري.
بين القانون العام والقانون الخاص التباسات، وبين الدراسات الدستورية والسياسية والإدارية التباسات والتباسات… فمن نماذج الالتباس بين العام والخاص ما أورده الأستاذ المراكشي في فصل القوانين الكافرة حيث يقول:
“تقول الفقرة الثانية في المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية (وهذا مجال حصري للقانون الخاص): إن ما يقع من إبطال أو تغيير أو تشطيب للرسم العقاري. لا يمكن التمسك به في مواجهة الغير المقيد عن حسن نية. كما لا يمكن أن يلحق أي ضرر إلا إذا كان صاحب الحق قد تضرر بسبب تدليس أو زور أو استعماله شريطة أن يرفع الدعوى للمطالبة بحقه داخل أجل أربع سنوات من تاريخ التقييد المطلوب أو بغيره أو التشطيب عليه”.
من عليه تسليط الضوء على هكذا إشكالات لفضح مثل هذه المؤامرات المصاغة بشكل قانوني؟ فعلا يصبح القانون في هذه الحالة، آلية من الآليات التي تعمل على استمرار استحواذ الأقلية المتحكمة في دواليب كل شيء.
هذه الفقرة مضمونها أن مالك العقار يمكنه أن يكون عرضة لضياع عقاره نتيجة تزوير أو تدليس… وإذا انقضت مدة أربع سنوات دون أن يرفع دعوى لاسترداد حقه ضاع منه!!
من شرع هذا القانون؟ يتساءل المراكشي ونتساءل معه… ونستدعي كل رجال القانون العام والخاص، وعلماء السياسة وأهل السوسيولوجيا لفك هذا اللغز؟؟
وارتباطا بهذا الالتباس، من عليه تسليط الضوء على هكذا إشكالات لفضح مثل هذه المؤامرات المصاغة بشكل قانوني؟.
فعلا يصبح القانون في هذه الحالة، آلية من الآليات التي تعمل على استمرار استحواذ الأقلية المتحكمة في دواليب كل شيء.
بجوار هذا الإشكال تنبت أسئلة عدة، والبحث عن جواب لها هو عين الالتباس، يقول المراكشي في الصفحة 149:
ما هي الدوافع التي دفعت المشرع إلى إقحام هذه المادة في مدونة الحقوق العينية ولمصلحة من؟ وهل توجد أية مصلحة أو مصالح عامة تصبو إلى تحقيقها؟ هل تعرض المشرع إلى ضغوطات من أجل إقحام هذه المادة ضمن مدونة الحقوق العينية؟ هل كانت أية مساومات في الخفاء بين الفرق البرلمانية… أم أنه جرى التصويت وتبرير القانون في ظل لا مبالاة أعضاء البرلمان؟ (انتهى كلام المراكشي).
ألم أقل لكم إنه كتاب جريء وشجاع؟ مجرد طرح هذه الأسئلة الآن هو في حد ذاته أمر جريء؛ في الوقت الذي استقال فيه أغلب الأكاديميين عن طرح الأسئلة الحقيقية. بل هناك منهم من انشغل بالمشاريع المدرة للدخل وولى ظهره للبحث العلمي معتبرا إياه مضرا بالدخل. (أستحضر هنا الانتقالات أو التحولات الكبرى التي تحدث عنها سعيد بنكراد: من المناضل إلى المنخرط ومن المثقف إلى الخبير أو التقني ومن المواطن إلى المستهلك).
ما يثير الانتباه في المراكشي ومقدمته هو كثرة الأسئلة وعمقها! أسئلة، ترتعد لمجرد طرحها فرائص الكثيرين ممن تعودا ردم رؤوسهم في الرمل.
سؤال الحقوق العينية وهو مجرد سؤال ضمن باقة من الأسئلة ترافقه، لها علاقة باغتصاب حقوق الضعفاء باسم نزع الملكية… فقط لأن الأقلية هي من تتحكم ومن يتحكم يشرع كما يشاء… فباسم القانون يصبح الظلم حقا…
ما هي الدوافع التي دفعت المشرع إلى إقحام هذه المادة في مدونة الحقوق العينية ولمصلحة من؟ هل تعرض المشرع إلى ضغوطات من أجل إقحام هذه المادة ضمن مدونة الحقوق العينية؟ هل كانت أية مساومات في الخفاء بين الفرق البرلمانية؟؟
بعيدا عن “المقدمة”، قريبا من حدود التماس والالتباس بين مجالات العلوم الاجتماعية، جدير بالإشارة ما تعرفه مواضيع اللامركزية واللاتمركز الإداري والجهوية من تنازع الاختصاص المعلن بين الدستوريين والباحثين في العلوم السياسية، ونظرائهم في العلوم الإدارية، فكل يريد حصر الموضوع في مجال اختصاصه، خاصة الإداريون الذين يجرون الموضوع عسفا، لمعالجته من زاوية النص فقط، كما لو أن القوننة أو الدسترة هي المخرج لكل الأزمات التي تنخر مفاصل الإدارة والشأن العام؟؟
والغريب… أنك لا تكاد تسمع لهم صوتا خارج دائرة الإجماع؟؟
كل المواضيع ذات الارتباط بالشأن العام عالجها النص الدستوري بدقة أم مر عليها مرور الكرام، تحتاج إلى أصوات مختلفة، وتحتاج لرؤية نقدية أكاديمية مستقلة بعيدة عن مساومات وتوافقات المشتغلين بالسياسة بدون علم… فالمقاربة النقدية الخارجة عن الإجماع أفيد من أجل تجويد النص…
يمكنني الجزم أن كتاب “المقدمة الاقلية المتحكمة بالمغرب“، يشكل صيحة جديدة في غياهب الصمت الذي سكن جامعاتنا والاستاذ المراكشي، تحسب له جرأته لطرح قضايا إشكالية على طاولة النقاش الأكاديمي الرصين والمستقل.
متى يعود صوت الجامعة ليصدح ببعض العقل؟ فقد طغى التوافق وطغت معه الأقلية المتحكمة في الجامعة كما في الحياة العامة