جميع الناس يتفلسفون، لكنهم ليسوا بفلاسفة. هذا أول درس تعلمته مع جيلي في أول حصة في مادة الفلسفة. لكن هناك أيضا أناس يتفلسفون. هؤلاء العباقرة وأصحاب العقول النيرة أغنوا الفكر الإنساني لقبوا بالفلاسفة حبا وتقديرا وكرامة لأعمالهم. أغلبهم لم يطلب هذا “اللقب”. وتعددت أسماء هؤلاء الفلاسفة: المعلمون، الحكماء، أصدقاء الحقيقة، أطباء المجتمع…
تفسير لاروس (المنجد الفرنسي) لكلمة فلسفة هي الرجوع للعقل، إذن جميع الأعمال الفكرية هي في الأساس ذات طبيعة فلسفية. الهدف هو دفع الإنسان لاستعمال طاقاته لإبداء رأي وإعطاء دليل.
فالعقل هو مبدع العقلانية. وهذه الأخيرة، يقول المفكر الفرنسي “ألبير جاكار” بأنها تمكننا من تجاوز السؤال العفوي والسيئ الصياغة والذي لا يمكن أن نجد له جوابا (لماذا تدور الشمس حول الأرض؟) لطرح السؤال الذي يمكن أن نجد له جوابا (كيف نفسر دوران الأرض جول الشمس؟). بقليل من الخيال الخصب، نفس العقل يمكنه إيجاد أجوبة مناسبة. فإذا كانت الأجوبة نهائية فستنتهي الفلسفة. لكن في أغلب الأحيان تكون هده الأجوبة انطلاقة لطرح أسئلة جديدة تساهم في توسيع دائرة النشاط الفلسفي .
الفلسفة تعلم قول كلمة “لا”، فهذه الـ “لا ” لا تعني بالضرورة إثبات العكس أو “لا” الذي يفهم منها العوام “لعكس”، بل انطلاقة لتطوير الفهم وبداية لطرح أسئلة أخرى أكثر جوهرية.
إلا أن الدولة المغربية لم تتعامل مع الفلسفة كمادة للتنوير الفكري حينما همشت الفلسفة من داخل الفصل ومن خارجه وأفرغت الدرس الفلسفي من محتواه ومن ماهيته في البرامج والمناهج المدرسية .
إن الضرب الذي تعرضت له الفلسفة كمادة ذات مساحة كبيرة في مناهج التعليم منذ بداية السبعينات، كان هدفه قتل الفكر النقدي بمقاربة أمنية. واليوم ما تعيشه الفلسفة هو استمرار لهذا المسلسل بمقاربة إديولوجية وخلفية محاسباتية. الشيء الذي يهدد بشكل كلي استقلالية المجالات المعرفية والإبستمولوجية ولا يخدم التربية والتكوين مما يوحي بان هناك خصومة بين العلم و الفلسفة .
إذا كانت الفلسفة معركة ضد الجهل، فلا يمكنها تجاهل العلم نظرا للترابط الوثيق بينهما. فمنذ العصور القديمة بذل الفلاسفة جهداً كبيراً في تفسير ظواهر العالم وماهيته وأصله ووجوده، وكان لا بدّ من وضع أسسٍ وقواعد معيّنة للبحث عن الأجوبة. إن النظريات العلمية هي الأساس الذي يعتمد عليه الفلاسفة لتفسير وإجابة تساؤلاتهم، وغالباً ما يكون العالم فيلسوفاً أو العكس. لذلك لا يمكن الفصل بين العلم والفلسفة.
لقد جرى ربط الفلسفة، منذ بداياتها الإغريقية، بنزعة نقدية ظلّت تتراكم مع مرور القرون وتطوّر الفعل الفلسفي وتلوّنه بألوان حضارية شتى. وإلى أيامنا هاته، لا يزال هذا الارتباط جوهرياً، وإن دعت الكثير من المواقف إلى مراجعة تمظهراته.
“أم العلوم” لا يمكن أن تتجاهل العلم؛ الاثنان ينهلان من نفس المنبع. ففلسفة العلم كان لها التأثير على التطور، حيث عملت على النظر للعلم في ضوء حركيته العظمى عبر التاريخ باعتباره مؤسسة ثقافية اجتماعية تؤثر في باقي المؤسسات المشكلة للحضارة وتتأثر بها، والتأكيد على ديمقراطية العلم وتعدديته، كإنجاز إنساني مشترك مفتوح أمام أي حضارة غربية كانت آم شرقية، وأمام أي إنسان رجلا كان أو امرأة.
الفلسفة كانت مثالا للمبهمات الواضحة سعيا وراء الأصل، يقول الفيزيائي البارزي “دي اسبانيا”. في عصرنا يبقى هذا القول صحيحا، فعلى مر العصور كانت الفلسفة مرآة للقنابير، وكما هي القنابير فالعقول الشابة محتاجة الى الضوء، والفلسفة مكنت من إيجاد هذه الأجنحة للتحليق نحو الضوء. وبهذا التقليد أعطت الاسم الجميل للفكر .
أختم بالمقولة العميقة للمفكر الفرنسي وعالم الجينات ألبيرجاكار Albert Jacquard؛ الفلسفة هي “فن العيش”، أي أن يصبح الإنسان غير خاضع لتسلسل التحولات الغدائية (métabolisme)، بل إنسانا مستفيدا من الوعي اللصيق بإنسانيته.
– محمد حمزة، أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم بنمسيك