استطاعت الصين، مند صعود دينغ سياوبينغ الى السلطة سنة 1978، “الجناح البورجوازي داخل الحزب الشيوعي الصيني”، أن تصبح قوتا اقتصاديتا عالميتا بعد أن كانت دولتا غارقتا في التخلف. يكفي أن نقول انه الى حدود هدا التاريخ كان الدخل الفردي للمواطن الصيني أقل 5 مرات من نظيره المغربي، اليوم يحق للصيني أن يفتخر أن بلده ثاني اقتصاد عالمي و قريبا سيكون الأول.
بهذا الانجاز تؤكد الصين للعالم المتاخر حقيقة ثابتة : التأخر ليست قدر الشعوب، فالنظام العالمي الجديد الدي ظهر بعد سنة 1945 ليس كما تصورته دائما النظريات الاقتصادية الهرطقية (مركز/أطراف) التي نشطت في دول العالم الثالت. فالاقتصاد المعولم و على عكس توقعات الجميع، أفاد اقتصادات الدول الصاعدة أكثر مما أفاد اقتصادات ما سمي بدول المركز. هدا المستجد فهمه مبكرا دينغ سياوبينغ، ففتح أسواق الصين بشكل دكي و على مراحل للراسمال الأجنبي. كان من الطبيعي أن الوضع الجديد سيزعج تدريجيا الدول الكلاسيكية، و لكن بما أن الصين و مثيلاتها متقيدة بقانون السوق فلم يكن بإمكان الاقتصادات الليبرالية أن تسجل اعتراضات كبيرة، باسثتناء بعض الملاحظات حول تلاعب الصين بعملتها. اليوم تزايدت حدة الهجوم مع هبوب ريح أقصى اليمين في الدول الكبرى، خاصة بعد صعود ترامب، حيث أقر هدا الأخير، مند ما يزيد عن سنة، عن حزمة من “العقوبات” على الشركات الصينية كان اخرها الهجوم على رائدة قطاع الهواتف في العالم “هواوي” تحت دريعة التجسس. رد الصين لم يتأخر كثيرا حيث أوقفت هاته الأخيرة المفاوضات التجارية و هددت، بطرق غير رسمية، ببيع سندات الخزينة الأمريكية التي في حوزتها. في هدا الإطار، سارع عدد من المحللين الى التلويح بإعادة سيناريو الحرب الباردة
فهل ادعاءات التجسس صحيحة ؟ و ما هي الدواعي الغير المعلنة لهدا القرار؟ ثم ما مستقبل العقوبات الأمريكية و أين ينتهي مسلسل صراع شد الحبل بين البلدين؟ و هل حقا يتكرر سيناريو الحرب الباردة؟
هواوي يقود ثورة الجيل الخامس الممهدة لإنترنيت الأشياء
إن اتهام الصين بالتجسس على العالم هو أمر لا مفر منه، فالصين، بلد المليار كاميرا، هي أصلا تتجسس على مواطنيها من خلال نظام سيزام للتنقيط. و بالتالي فالصين ليست دلك الملاك المخلص كما يعتقد البعض، اد يكفي متابعة ما تفعله مع الدول التي يمر منها طريق الحرير الصيني من مراوغات و تركيع عن طريق الديون ( نمودجي سيريلنكا و زامبيا ). و لعل ما يزيد من صحة ادعاءات ترامب و هو أن المدير التنفيدي لشركة هواواي هو في نفس الوقت عضو فاعل في الحزب الشيوعي الصيني شأنه شأن مؤسس عملاق التجارة الالكترونية علي بابا. و بالتالي فإن الشركات الصينية العملاقة، كنظيراتها بكل بقاع العالم، لها باع طويل في التجسس، أو ما يسمى بلغة ألطف، الدفاع عن المصالح الإستراتيجية للوطن. لكن السؤال المطروح هو لمادا هدا الانتباه المفاجئ و تسليط الأضواء على هواوي. الجواب مرتبط (زيادة على تفوقها على أيفون الامريكية في المبيعات) بثورة الجيل الخامس، فعلى عكس كل ثورات الأجيال السابقة المرتبطة أساسا ببعض التحسينات على مستوى سرعة الانترنيت و تفاصيل بسيطة، الجيل الخامس يؤسس لثورة تكنولوجية جديدة إسمها انترنيت الأشياء، ثورة تقاس باكتشاف الزراعة أو النار لدى الانسان القديم. فانترنيت الأشياء ستجعل كل الأجهزة و هي بالملايير متواصلة فيما بينها، الهاتف مع السيارة مع أدوات المنزل مع الساعة اليدوية… هدا ما يسمى بالعالم الدكي قياسا ب”العالم الغبي” الدي نعيشه. و بغض النظر عن المفاجئات الكبيرة التي ستحدثها هاته الثورة و التي لا يكفي مقال واحد للتفصيل فيها، فهي ستمنح الصين معلومات لم يسبق لها مثيل و ستدفع بكل القطاعات الاقتصادية الى الريادة لما ستوفره من مادة خام. بقرار ترامب منع جوجل و تطبيقات أمريكية أخرى من التعامل مع هواوي فهو يحاول أن يقول للصين، نحن وحدنا من نمتلك حق التجسس على المستقبل
مادا عن الدوافع الإقتصادية الأخرى لهدا القرار ؟
إن المتتبع لمسلسل شد الحبل بين العملاقين، يلاحظ أن، على عكس الولايات المتحدة، فالصين تحافظ على برودة أعصابها فلا نرى أي تصريحات مجانية أو انفعالية لأي مسؤول صيني، و دلك رغم استمرار اعتقال إبنة مؤسس هواوي بكندا . كيف لا يكون هدا الهدوء و الميزان التجاري بين الولايات المتحدة و الصين في صالح هاته الأخيرة. ليس هدا فقط، بل هو في وضعية مريحة جدا و غير مسبوقة. الصين تصدر أربع مرات ما تستورده من الولايات المتحدة، و كأننا أمام ميزان تجاري لبلد افريقي مع بلد من أوربا الغربية. هاته الوضعية لا يمكن أن تكون إلا مدلة لدولة حتى الان هي أقوى اقتصاد في العالم
في 2018 بدأ ترامب سلسلة من الزيادات الجمركية على 200 مليار دولار من المستوردات الصينية، و هو ما يشكل بين ثلت و نصف مجموع المستوردات، اعتقادا منه أنه قادر على تقليص العجز التجاري. تقرير سنة 2018، حول التجارة بين البلدين أشار لتعميق العجز لصالح الصين ب %17
طريق الحرير الصينينة تزعج
مند بداية عصر التوسعات الإمبراطورية، فهمت الإمبراطوريات أن السيطرة على الطرق التجارية و تشييدها هو السبيل لضمان التفوق، فلا عجب مثلا أن الطرق الرومانية ما تزال قائمة الى اليوم بل و تستعمل بعضها في التجارة الدولية. اليوم، الصين تصل للمراحل الأخيرة في تغيير خارطة الطرق التجارية لصالحها، الطريق الجديدة ستشمل 123 دولة في مختلف القارات. و هو ما يعني نهاية امتيازات الحضارة الغربية. هدا الإجراء سيكون بلا شك محفز لإجراءات مقبلة قد تصل لبناء عملة جديدة بدل الدولار المعتمد في التجارة العالمية. الولايات المتحدة و حليفاتها على وعي ثام بهده التحولات. لدلك كان طبيعيا أن تتحول جلسة عادية للأمم المتحدة يوم 15/3 الى مشادات و اتهامات موجهة من الولايات المتحدة للصين بتمويل الطريق الجديدة عن طريق رشاوي لمسؤولي دول كثيرة بينها أفغانيستان
مادا عن أوربا ؟
أوربا اليوم جد منقسمة على الأقل بين ثلاث محاور، فإيطاليا، التي تسيرها حكومة شعبوية، على رأس الدول التي تسهل طريق الحرير الصينية للدخول الى أوربا، و هي بدلك تساهم في تعزيز الانقسام الأوربي. أما المملكة المتحدة فاختارت بدون مفاجئات المشي مع حليفتها الكلاسيكية الو-م-أ و منعت هواوي من التواجد على أرضها، أما فرنسا و ألمانيا و معهما بلجيكا قد اخترن موقفا شبه محايد. فتخوفهما من ترامب لا يقل عن تخوفهم من الصين
الصين و الولايات المتحدة، حرب باردة جديدة ؟
أمام هده الحرب التجارية المعلنة في واضح النهار، يرفع بعض المحللين شعار الحرب الباردة، مقارنين الصين بالاتحاد السوفياتي في صراعه مع الولايات المتحدة. إلا أن الوضعية رغم ما تحمله من تشابه في الظاهر، فهي في جورها مختلفة اختلافا كليا. فأيام الاتحاد السوفياتي كان رقم المعاملات التجارية بين الدولتين لا يتجاوز ملياري دولار في السنة أما اليوم فرقم المعاملات بين الصين و الو-م-أ هو ملياري دولار في اليوم الواحد. و بالتالي فإن الاقتصادات الكبرى مترابطة أكثر مما نعتقد. فتلويح الصين مثلا ببيع سندات الخزينة الأمريكية التي تمتلك جزءا مهما منها، ستتسبب بلا شك في نزول أسعار الفائدة الى مستويات قياسية، و بالتالي اضعاف الدولار الدي تملك الصين احتياطي كبير منه. نزول الدولار من شأنه أيضا أن يرتقي بقيمة اليوان ( العملة الصينية ) وبالتالي فقدان الصادرات الصينية لبعض امتيازاتها من ضعف العملة. و هو ما لا تتمناه الصين في ظل المنافسة الشرسة من الهند و دول أسيا الشرقية لبعض منتجاتها
سلسلة الاستيراد، موضوع أخر ؟
أقوى مؤشر على عولمة الاقتصاد العالمي هو ما يسمي سلسلات الاستيراد و التي فرضتها ظروف المنافسة المحتدمة و البحث المستثمر عن التقليل من التكلفة. سلسلة الاستيراد، تعني الاستفادة من مكان تواجد المواد الأساسية لبناء المنتوج من المصدر، فهاتف ايفون الأمريكي يحتاج لمئات المكونات التي لا توجد بالضرورة في الو-م-أ. و بالتالي فكل دولة تتخصص في أجزاء صغيرة منه. هدا المعطى جعل كل دولة، بل و كل منتوج مرتبط بمنتوج أخر الى ما لا نهاية من الارتباط.
فرفع الضرائب على السلع الصينية مثلا لم يجعل الشركات الأمريكية تبحث عن البدائل، بل انعكس على صعود الأثمنة ( ربما لم تسجل هده الحالة بسبب قرار إنزال الضرائب على الشركات الأمريكية ). و لذلك رأينا ان على عكس ما يدعيه ترامب من ايقاف للصين، فعجز الميزان التجاري في عهده كان غير مسبوق.
يظهر من خلال ما سبق أن لا مستقبل للسياسات الحمائية، فقوانين الارتقاء تحكمها ربما قوانين طبيعية لا ترتبط بإجراءات مرحلية غالبا ما تكون انفعالية فقط. و هدا ما تستوعبه الصين جيدا.