لأن شخص كل واحد من اللواتي والذين، عاشوا أفكارهم وأحلامهم، في بوثقة الانتماء اليساري، صيغت ملامحه ضمن العلاقات الجماعية التنظيمية الحزبية.
فلا يمكن، لمن يملك ذرة صدق، أن لا يعترف، أن التنشئة الاجتماعية للمناضلات والمناضلين تتقوّم، كل يوم، بفضل التربية السياسية، من داخل العمل الحزبي، بشكل أفضل، من خلال العطاء والأخذ، بتفاعل الصواب والخطأ، ومراجعة الأهداف المشتركة والأساليب المتبعة والوسائل المستعملة، بتعاقدات ننسجها في جموعنا وفق التقارير وما تتضمنه من خلاصات.
ولأن السياسة الحزبية، في المفهوم الذهني التلقائي، سعي حثيث، يصبح مع الوقت، ضمن مشروع مجتمعي شامل ومتكامل، ليصبح نضال الشعب من أجل السلطة السياسية سيرا دؤوبا بخلفية المواطنة المسؤولة،على طريق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
فالضمير الشخصي، يسترعي انتباه صاحبه، أن يراجع قيمه وبرامج حياته وسلوكاته، وفق بوصلة لا تخطئ الهدف. وللحياة الحزبية دور لا يقدر بثمن في هذا الباب.
لكن المحيط الاجتماعي (العائلة، العمل، الحومة)، بتلوناته الأوسع (الإثنية، الطبقية، الجغرافية) والأضيق (اليُتْم، مستوى التثقيف الذاتي، لغات القراءة، رصيد التنقلات المكانية، المسافة مع التدين)، يرسم ملامح محفورة عميقا، في الشخصية المغربية التي تحسب نفسها على اليسار، إما على تماس يومي مع العلمانية والعقلانية والحرية الفردية والغيرية الاختيارية، أو على مسافة من مقومات الاحتضان التلقائي لقيم اليسار وما يترتب عن ذلك من علائق اضطرارية بالمجتمع المحافظ وانعكاساته السلوكية داخل العائلة ومكان العمل وفي المحيط الحزبي.
كل هذه النقط تفرز في الأخير تنوعات في فهم الانتماء لليسار. قد تجد أفراداً ميسورين أقرب إلى التطابق مع السلوك اليساري الحديث. وقد نجد أكثر المناضلين صدقا في دأبهم الكفاحي القتالي، لكن تكريسهم للمجتمع المحافظ يترك محيطهم الاجتماعي في حيرة بصدد القدوة اليسارية؟ هل هي النضال ضد الدولة فقط؟ أم هي تحرر الأفراد من الوصايات المركزية الموروثة؟ هل السلطوية القيمية بلهيبها التحكمي تنفي احترام النمط الفردي في العيش أم تخضع لتنميط سلوك الناس باسم الرابطة الحزبية؟ ألم تفشل اشتراكية القرن 20 بالضبط لأنها زرعت في الأذهان اليسارية التحكم الشرقي الذي تملكه الجماعة على الأفراد امتدادا لتخلف المجتمع الروسي النموذج؟ ألسنا، ونحن المغاربة على تماس مع أوربا والغرب، مختلفين عن عرب المشرق وعن موروث الاشتراكية بالتجربة الروسية التحكمية الشرقية؟
هل يصعب علينا تلمس الاقتراب التلقائي مع أوربا الغربية لدى الأفراد من ذوي الأصول الأمازيغية الأطلسية وذوي الامتدادات الجغرافية لما كانت عليه إمارة برغواطة، من ساحل الرباط إلى الخميسات إلى خنيفرة مرورا نحو ميدلت، أو ما كانت تسميه السوسيولوجيا الاستعمارية المناطق الثلاث لحرف الزاي (les régions des trois Z): زعير، زمور، زايان (ميشو بيلير:les archives du Maroc).
معادننا فائقة الجودة، لكن أسلحتنا منتهية الصلاحية، ناهيكم عن كوننا نخوض معارك جانبية.
فالسياسة الحزبية، عبر التنظيم الجماعي، يفترض فيها أن تكون، مشتلا تصوغ شخصية المناضلين وفق المثال المعروض من طرف الحزب على الشعب كبرنامج عمل، فإذا لم يبدأ المناضلات والمناضلون بأنفسهم، تصاب مصداقية الحزب مع الشعب بالخلل وبالضعف وبنقصان الثقة في المشروع الحزبي.
وإذا لم يبذل أعضاء الحزب الجهد لتقترب المسافة ما بين القول والفعل، تتسع تلك المسافة لتصبح الممارسة في واد ويتحول المشروع الحزبي مجرد وهم أو جرعة دواء لتخدير الضمير لا غير. فالنضال الأصلي والأولي يكون نضالا في النفس، ومع الذات، كي لا ندعي أفكارا نحن أنفسنا عاجزين عن تطبيقها.
ولأن صدقية النضال من أجل أهداف الحزب ليست مجرد نيات حسنة، ولأن النضال الحزبي يجري ضمن حقل اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي، يحتويه النظام السياسي من كل جهة، فالعراقيل متعددة، والتضليل الإعلامي متواصل لصرف الناس عن الحقائق المرّة.
ناهيكم عن كوننا نأتي إلى الاجتماعات الحزبية ونفسيتنا تختزن كل الهموم العائلية والصعوبات المادية وشحنة الغرائز الحيوانية في جهازنا العصبي، فسلوكاتنا العفوية مضغوطة بتلك التعقيدات كلها.
علما أن التنشئة الاجتماعية الأسرية والمدرسية السابقة عن الانتماء الحزبي، مختلفة من أسرة إلى أسرة ومن منطقة إلى منطقة، مما يقوِّي احتمالات الاختلاف في التفكير والتعبير والتفسير، يقابله احتمال الاختلاف في الفهم والتأويل، مع ما يزيد من صعوبات التواصل من توجسات في النية (بين الحسن والسوء) وفي الظن (أيضا بين الحسن والسوء).
فالنضال ضد النفس لتجويد المعاملة الرفاقية انتباه متواصل لا يتوقف لما قد يصدر مني من تعقيدات أصبح أنا المسؤول عن تفاعلاتها قبل سوء تفسيرها من طرف الغير.
لذلك، نرى بعض الرفاق، يبدلون من المودة والعطف وروح التضامن، في كل مرة وإثر كل اختلاف في المواقف خصوصا مع من يختلفون معهم في الرأي، كي لا يخلط الرفاق، بين الاختلاف في المواقف التنظيمية والسياسية وبين العلاقات الشخصية. تلك القدرة على التمييز بين الحزبي المحض وبين الانساني ليست مجرد ميكيافيلية حاذقة، بل حرص متواصل على ما للحزب للحزب وما للإنسان فينا للإنسان.
ولنا في التقييمات التي تصدر عن هيئات المراقبين إثر كل انتخابات كون الحزب يتصدر أخلاقيات الحملة الانتخابية النظيفة وكونه على رأس الأحزاب من بين الأحزاب الحامل لثقة حاملي الشهادات العليا بين صفوفه. فأفضل ما يتوفر عليه المجتمع المغربي يضع ثقته في البرنامج السياسي للحزب الاشتراكي الموحد. لكننا في آخر المطاف جزء لا يتجزأ من هذا الشعب الذي يتشكل من مكونات ثقافية واجتماعية واقتصادية توصف كونها ملامح المجتمع المتخلف. قدرنا إذن، أن نبذل جهودا مضاعفة كي نحافظ على ممارسة ليست بعيدة عن أحلامنا وعن أهدافنا.
لكن غياب الوعي العميق بالتنوعات التاريخية والجغرافية، يشل قدرتنا عن التمازج داخل البوثقة الحزبية كنموذج لليساري المغربي، الذي يصبح قبل كل شيء مواطنا بالمواصفات العالمية. ليس بالمعنى المطلبي في مواجهة الدولة بالدرجة الأولى. لكن بالمعنى السلوكي المحتك يوميا مع المحيط الاجتماعي حيث النموذجين الليبرالي والديني بوسائل المال والدين وما يجلبان من الخبرة والدربة والتواصية والفعالية والجاذبية النفعية.
دون اكتساب تمغربيت الجديدة تحت السقف العالمي، سنكرر يسارية روسية غير مستوعبة، مما جعل الليبراليين والأصوليين يكادون يتوفرون على “حجج” (حق يراد به باطل) كوننا نحمل “أفكارا مستوردة”. وهو ما لم ننتبه له، فيكاد أكثرنا إخلاصا للقيم الاشتراكية وللتموقع اليساري الوفي، أن يتحول إما إلى مغربي تقليدي محافظ، أو إلى مغربي “يساري” بأوهام تنتسب – من حيث النية- إلى بقايا الثورة الروسية…مع منسوب ضعيف من العلمانية والعقلانية والحرية والغيرية الاختيارية الصلبة التضامنية الطبقية، ناهيكم عن نضوب الجاذبية الايديولوجية. فلا الطبقية طبقية ولا الغيرية ولا الحرية حرية ولا العقلانية عقلانية وأما العلمانية فعلمانيتنا في أحسن الأحوال تشدق بالاطلاع على قانون فرنسا لسنة 1905.
لأن كل هذه الأنيميا الثقافية ساكنة وعينا، لم يكن الخلاف بيننا نتيجة لرداءة مناضلينا ومناضلاتنا. بالعكس، يجذب الحزب الاشتراكي الموحد أفضل أبناء وبنات هذا الشعب الطيب، وأكثرهم كفاحا أكثرهم صبرا وصلابة. لكن الفقر المدقع في الفكر السياسي لدى اليساريين واليساريات، هو الذي ينقلنا إلى حقل حيث مقولة “للي حرث الجمل دكُّو”.
علينا أن نشتغل على أنفسنا، بالقدر الذي نعقد العزم على مواجهة الأصوليتين: المخزنية والدينية. وإلا سننزلق رويدا إلى جوارهم، في غفلة منا.
بين رفيقاتي ورفاقي، 90 في المائة من هم أحسن مني. لكنني أملك جرأة متواضعة لترك مجال “دون كيشوط” في “النضال”: المواقع القيادية. هي مكمن مرض النخب السياسية الليبرالية ونحن نسير نحو حتفها بصراعنا حول المواقع القيادية. بذلك، نعطي الدليل للشعب أننا لا نملك أهدافا يسارية صادقة. مقابل هذا الضعف الجوهري، نملك قدرة فائقة على المزايدة اللفظية وصبر لا يقاوم على خوض المعارك الخاسرة، المعارك الجانبية، حد البلادة والوصولية.
معادننا فائقة الجودة من حيث أننا أبناء وبنات الشعب، لكن أسلحتنا قديمة ومنتهية الصلاحية. تلك المفارقة المركزية الكامنة وراء صعوباتنا الذاتية.
لأنني أدعي أنني أملك وعيا نقديا يوفر لديّ نقدا للتجربة الروسية اللينينية، وهي خلاصة على النقيض من احترامي العالي لشخص لينين النادر في التاريخ السياسي البشري الحديث، لذلك أنهي بعنوان لأحد مقالات لينين البيداغوجية الخالدة: “من الممكن أقل، شرط أن يكون أفضل”.
أما الجري وراء “الأكثر”، فالجميع يشهد مهزلته، و”سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون”. و”طريق جهنم، مفروش بالنيات الحسنة” على كل حال.
ليس المهم أن تدعي أنك يساري، بل الأهم أن تكون نافعا لمحيطك الاجتماعي وفي نفس الوقت متفوقا في فكرك السياسي وثالثا أن تصبح قياديا معترفا بك في محيط الإدارة والفاعلين السياسيين.
لدينا مقولة عمرها أربعة عشر قرنا: خيركم في الجاهلية خيركم في الإسلام. هل نمثل خير الناس في محيطنا الاجتماعي (خيركم في الجاهلية؟) أم نسعى لنكون أخيارا قياديين في الحزب (خيركم في الإسلام) ونحن مجهولين من أقرب محيط اجتماعي؟