هل الكفاءة مجرد تقنوقراطية جيدة؟ هل هي مجرد بيروقراطية رفيعة الخبرة التنظيمية؟ إذا كان الخبير مجرد موظف ألا يكون هش المبدأ صلب الوساطة بل مصرّاً على البحث عن المنفعة؟ ألا يمكن للوسيط أن يبيع خبرته لمن يدفع أكثر؟ سيعلق الليبرالي الأبله: وما المشكلة؟ رسملة الخبرة وقانون العرض والطلب في السوق يحدد لصاحب الخبرة مع من يتعاقد.
هؤلاء المناضلون الطيبون المخطئون والصائبون، المتشدد منهم واللبق السلس، التصقت بهم صفة المناضل بكل واحد منهم (وليس صفة العضو فقط)، لأنهم وازنوا بميزان الكينونة ذاتها بين المبدأ والخبرة من أجل قضية عادلة. لذلك، يوجد فرق نوعي بين المناضل (حتى لو كان أجيرا تدفع له مؤسسته) وبين الخبير الذي يوازن بين المبدأ والخبرة. دون قضية عادلة كهدف سابق ولاحق. تلك مواصفات كفاءات الاشتراكي الموحد.
حالة من الكفاءة الفردية:
نعيمة
أنت بنت بوجراح، فقيرة المنبت الاجتماعي، تنهضين كل صباح باكر، لتصلي عملك اليومي البعيد عن المنزل بما لا يقل عن 10 كيلو، قبل الطاكسي، تمارسين رياضة المشي اليومي – اضطرارا- ما مسافته 2 كيلو. ذهابا، و2 كيلو إيابا. المجموع، تتنقلين 24 كيلو، وإذا ضاعفناها 365 يوما، تساوي أن كسرة الخبز ومصروف الجيب وتغطية الماء والكهرباء للأسرة، عليك خوض ازدحام الطاكسيات 8000 كيلو سنويا.
من يتصور نعيمة بهذا الزخم الحركي، يتخيلها بنت مغربية قل حظها من الدراسة، ولم تسمع بالعمل الجمعوي، ولم تلتق يوما بالمتحزبين كي ترتسم الخريطة الحزبية في مخيلتها. أمية مائة في المائة في الثقافة السياسية. وبالتالي نتصور نعيمة بنت الشعب الغلبان المنزاحة في دار غفلون. تغالب الوقت من أجل طرف د الخبز.
لا نعماس !!!. ترتشف كأس قهوة سوداء مع أصدقائك في كلية الآداب، فتسأل الأستاذ فلان الفلاني الذي كان يوما عضو المكتب الوطني للمنظمة الحقوقية الفلانية، فتعلم أنه أستاذها ومحبها في مرتبة بنته. والأستاذ الآخر مؤلف كتب البلاغة والحجاج، فتعلم أن كان له شرف تأطيرها في الماستر. تطلب صداقتها في الفيسبوك، ، وتجول على صفحتها كي تطلع على اهتماماتها لتستخلص ميولها وتسمح لنفس بتقييم ذوقها وربما نوع الإنسان الكامن وراء ابتسامتها الطفولية وإشراق ملامحها وحجمها لا يزيد عن نحلة منشغلة باليومي كما قد تتخيل. تتوغل في صفحة فيسبوكها. فتفشي لك صورها غزارة حضورها في الأنشطة الجمعوية. تتوغل أكثر، فتتعجب أنها كانت ضمن ثلة الطلبة الذين فضلوا الاشتغال في فصيل الطلبة الديمقراطيين التقدميين. أوَّاه؟ هذه صورتها رفقة محمد بنسعيد آيت يدر.
تسألها: ما الذي انتقل بك من الكلية إلى العمل الجمعوي إلى الفصيل إلى حشدت إلى الاشتراكي الموحد؟ تجيب بسلاسة: كثير من الرفاق هم قبل العمل الجمعوي أساتذتي في مختلف مراحل الدراسة. ومنهم من علمني مرتين: مرة في قسم المدرسة العمومية ومرة في أنشطة جمعية الشعلة. الخلاصة: لم يعد الاشتراكي الموحد مجرد حزب من الأحزاب. ها هي نعيمة شاهدة إثبات كونه تيارا اجتماعيا قبل الايديولوجيا والسياسة بفضل أطره الذين لا تستكين حركتهم في مجرد المقر الحزبي.
ذات مساء، سألتها عن العمل الجمعوي وخلطت الحديث بالنكت والضحك، وصمتُّ لأنصت، لأتعلم من هذه الصبية كيف يشتغل هذا الجيل. جيل ما بعد 20 فبراير. اطلعت أنها رفقة جويرية اختيرت ممثلتين بالمنطقة لمنظمة عالمية لها فرع في المغرب، اهتمامها انتقاء ذوات وذوي مؤشرات القيادات الشبابية. بعدما تسجل للترشح لذلك ما يفوق المئتين، وبعدما احتفظت المنظمة المذكورة بالفئة الأفضل وفق معاييرها ب(25 شاب وشابة) لم يكن ممثلا لهما سوى جويرية ونعيمة.
إذا، جيلا بعد جيل، يجتذب الاشتراكي الموحد أفضل ما يتم اختياره بالمعايير الدولية.
***
اشتباك السلوك محض الفردي لحظات العمل الجماعي على الصعيد المركزي.
فخدمة للقضية العادلة يقتسم المناضلون والمناضلات الخبرة والمبدأ عبر تثقيف جماعي يتخذ صيغة عامة متداولة اليوم، تسمى التكوين المستمر. ويتجسد اقتسام الخبرة الجماعي في دورات تتخذ صبغة المخيمات الصيفية والجامعات الدورية. ولأن هذا الاقتسام للخبرة يصبح بالضرورة خدمة عمومية تجسد ما يعبر عنه القانون الرسمي بتأطير الأحزاب للمواطنين، فالخدمة العمومية تكون ملتزمة باحترام القناعات العامة لعموم المجتمع خلال أوقات العمل. وأوقات العمل تلتزم بمبدأ “درء المفاسد أولى من جلب المصالح”. وإذا كانت المصلحة العامة هي التكوين (= اقتسام الخبرة) فعلى المشاركين (مؤطرين ومستفيدين) أن يلتزموا بأخلاقيات الخدمة العمومية. هل يحق لأحد أن يدخل قاعة النقاش العمومي وهو شارب كحول مثلا؟ هل يحق لاثنين أن يمارسا الاغراء الجنسي بينهما لحظات التكوين الجماعي في أوقاته الرسمية؟ احترام جدول الأعمال والتركيز عليه باحترام تام من صلب العمل المؤسسي المسؤول. أما الميولات الشخصية فتبقى خارج المدة التي تشمل جدول الأعمال من البدء حتى الانتهاء.
كانت أخلاقيات العمل النضالي لدى يساريي السبعينات من القرن الماضي تفصل بصلابة وتصميم بين أوقات الحريات الفردية ومدة العمل الجماعي. لكن الفهم اللزج للحريات الفردية اليوم أفسد الجدية وترك الدعوة الى خدمة القناعات الجماعية بجدية كما لو كان تشددا ستالينيا.
إن الصناعة الجماعية للكفاءة تقتضي التمرن على العمل المؤسساتي المسؤول، حيث الفصل التام بين الحريات الفردية وبين ورش التكوين واقتسام الخبرة. ولا يعقل منطقيا أن تمتد لحظة فاصل استراحة (ربع ساعة) إلى مساحة زمنية ممتدة كافية لشرب الكحول. علما أن الصناعة الجماعية للكفاءة لا يمكن أن تكون جدية إذا لم تعلم المناضلين كيف يفرقون عقليا بين المتعة وبين الإدمان. المتعة الفردية التي لا تؤذي بل والتي تساعد الناس على اقتسام الفرح خارج أوقات العمل متعة مرغوبة وضمن العلاقات الجماعية الودية. أما خلط المتعة بأوقات العمل فهو سلوك صبياني يقتضي – بالنتيجة- الحكم القيمي على صاحبه أنه عجز عن التدبير العقلاني للسلوك الشخصي، فكيف والحالة هذه ادعاء المساهمة في العمل المسؤول لتعليم وتعلم خدمة القضايا العادلة؟
يجدد اليساريون القول كون قناعاتهم في خدمة الشعب يتطوعون بأوقاتهم لخدمة القضايا العادلة بالاستقطاب والتكوين والتنظيم والتعبئة.
***
نختلف في أصل المنهجيات التنظيمية. نختلف في فهم الأهداف المرحلية. نختلف لكننا على عتبة الجدية. فليست بين الرفاق والرفيقات سلوكيات مشينة تخلط بين الحريات الفردية وبين العمل الجماعي. عندما ننتهي من العمل الحزبي المسؤول ساعتها يبقى ينسحب كل عضو حزبي إلى صفته وسط المجتمع فقد يذهب جمع إلى اقتسام الفرح والتنكيت والقهقهة لا ضرر فيها.
هذه النموذجية في العمل الحزبي بتطوان، تجعلنا نحتفظ بالمودة العامة بيننا مهما اتسعت الخلافات في فهم القضايا قيد جدول الأعمال.
ولكي لا يبقى النقاش في هذا المستوى، ولنرتقي به إلى مقتضيات الصناعة الجماعية للكفاءة، نذكر أنه في المحطات الوطنية للأنشطة الحزبية والموازية، تكاثرت مظاهر الإخلال بالعمل الجدي، واختلطت حد التشابك اللامسؤول مظاهر الحريات الفردية بلحظات العمل الجماعي المسؤول. فانخفض منسوب الجدية والمسؤولية. فالمناضلون ليسوا مجرد خبراء جيدين في علوم المحاججة. هم – بالضرورة المفترضة – قادة للمجتمع في ضبط قواعد الالتزام المسؤول. فالعمل الحزبي الرسمي عمل يدخل في صلب الشأن العام. فالمقر الحزبي فضاء عام. والفضاء العام المستعار للعمل الحزبي يبقى فضاء عام ملك لكل المغاربة حتى وهو خاضع للعمل الحزبي.
ضمن هذا الخلط ننتقد الكولسة وننتقد الهيمنة وننتقد المحافظة. لا يمكننا ممارسة الصراع التنظيمي والسياسي النبيل، ضمن ظواهر سلوكية منحطة. خصوصا إذا تحولت النزوات الشخصية إلى وسائل للتعبئة والتجييش. وعلى المكتب السياسي والمجلس الوطني أن يتحمل دوره التنظيمي في تشذيب السلوكيات الفردية التي كادت تتحول إلى مظهر موازي سلبي للمناسبات الحزبية المركزية.
باعتباري عضو حامل لبطاقة الحزب، ولست مسؤولا في أي جهاز قيادي لا محلي ولا اقليمي ولا جهوي ولا وطني، ألتمس الانتباه للظواهر السلبية التي تفقدنا احترام الناس. علما أن المسؤولية تضع العضو الحزبي في مواجهة مباشرة مع المجتمع والمؤسسات والخصوم والأصدقاء.
ألا نساهم بالهدر تلو الهدر؟ في التسيير الجدي وفي اشتباك الحريات الشخصية مع لحظات العمل الجماعي.. لقد مرت على الهبة الجماهيرية من حول قيادة الحزب أربع سنوات (2015- 2019). فنحن بين المطرقة والسندان اليوم. بين التشدد البيروقراطي وبين الاندلاق “الديمقراطي”.
نعيمة، ليست خصم لأي من النوعين، فهي مبتسمة دوما، وليست نمامة ولا حاقدة ولا منافسة ولا حاسدة ولا متعجرفة ولا ساجدة. هي فقط كفاءة اجتماعية محبوبة مرغوبة ومن المفروض أن نراها كذلك، ويحق لنا الحذر من أن نراها عضوة شاردة.
بينما تملّكنا النضج في حالات أخرى منشغلة بمشاريع يهم الاشتراكي الموحد أن تنجح وتكون امتدادا للإشعاع الحزبي، فمارسنا مع أصحابها الملاءمة المطلوبة ولم نشطب عليهم من مواقعهم في المسؤولية الحزبية.