كم يمكن للإنسان أن يملك مما يملكه ابراهيم ياسين من الحكمة عقلا ومن الهدوء سلوكا ومن البساطة بلاغة؟ بكل مواصفاته المتميزة في التفكير والتصرف، بمبادرة مفصلة المعطيات، راجع حصيلة حالات الاندماج التي سلكها اليساريون المعنيون. ولم ولن يجد القارئ لبحثه الدقيق أية سلبية لا علنية ولا مضمرة ولا بالسياق. وهو ليس ممن يمكن أن يشكك في ضمائر اليساريين المعنيين، لا فيما بينهم من صدق، ولا فيما يقصدونه من أهداف تقليل خسائر التشرذم، ولا فيما من طموح مشروع مجمع حوله بصدد شعار “من أجل حزب اشتراكي كبير”.
الحصيلة تسجل أن الهدف الجيد لاستراتيجية توحيد صفوف اليسار، لا نملك بصدده العدة السياسية الكفيلة بتحقيقه. بينما جعلت المرحلة الحزب الاشتراكي الموحد قطب جذب أكيد، منذ تغير المزاج السياسي لعموم الشعب ولأجيال الشباب منذ 2011 إلى اليوم. فلو سمحنا لأنفسنا التعبير عن العتاد الجماهيري كشرط من شروط التحول نحو حزب أكبر تدريجيا بنسب متواترة ملائمة، لما تردد أحد منا في تأكيد توفر هذا الشرط. الشرط الثاني، الحاصل هو النسبة الكبيرة مما يمكن تسميته “الاكتمال الديمغرافي” للحزب. فمن مختلف الأعمار، ومن الجنسين، ومن مختلف المهن، ومن مختلف المناطق، ومن مختلف الأوساط المؤسساتية، أصبحنا نتلمس أن الحزب الاشتراكي الموحد أصبح بوصلة أفق التوقع السياسي للرأي العام السياسي المغربي. الشرط الثالث المتوفر ترسانة من الأكاديميين والمجربين الإداريين ونخب النقابيين والناشطين الجمعويين تشكل على المستوى الخام خزان بروتينات سياسية مغذية في مختلف بؤر العمل الحزبي. سواء على مستوى صناعة القرار أو مستوى التنظيم أو مستوى التعبئة أو مستوى الإشعاع.
ما ينقصنا هو أننا لا نتابع فكر الإنسانية وكيف تلتقط الكتب ومؤلفوها الأضرار التي تسببها الثورة التكنولوجيا الجديدة. بحيث ما سماه أحد الغربيين “مصيدة التشتت الرقمي” نعيشه يوميا من خلال التدفق الكلامي على شارع الفيسبوك وقد أصبح بمثابة “جادة نيفسكي” الجديدة حيث يستسهل الناس الأحاديث بلا تريث ولا تروي وبتلقائية تخلط ما بين تعلة الشفافية والعطش لحرية التعبير السهل والحزم الواهم بصدد تسجيل المواقف فيما بين الأفراد.
إن لقيادتنا جزء من المسؤولية في ترك الحبل على الغالب. وفي الغالب نحوّل اختلاف زوايا النظر إلى تراشق وعناد بل وتغول ضد بعضنا البعض. هذا الكلام ليس نقدا، بل تفكير بصوت عالي، فيه الكثير من المراجعة الشخصية بحيث نعتقد وفي كل وقت أن الأمر ينطبق على أنفسنا عندما نردد “من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها الأول”.
إن الحرارة بل السخونة التي يشتبك بها أعضاء اليسار فيما بينهم عند الاختلاف في تقدير الأشياء، وإن كانت في ذاتها مؤشرا سلبيا لكنها تعني أن الوسط الاجتماعي الذي يحتضن الاشتراكي الموحد يعيش دينامية فوّارة تستحق بلوغ كل الأهداف النبيلة الطموحة التي نعلن عنها هنا وهناك. لكننا ونحن نعلن الأهداف الجريئة لا نبدل في سبيلها القدر الكافي من البيداغوجية البينية. البيداغوجية التي لا تنفي الأنانية الفردية لكن تلحمها بنمط ألفة إنسانية “تضع التبن بين الخزف” كي لا تنكسر النفوس.
إن كل واحد منا وهو يتأمل ما لديه من ذخيرة إنسانية وهو يعلم أن ذرات الخير الكامنة لدى كل البشر، لنعلم جميعا أن ما ينقصنا سوى لحظة مونولوغ التي نستشعر فيها الطاقات الإنسانية وهي ملح المواقف والخميرة التي نلقيها في عجين استعداداتنا لفعل الخير النضالي التطوعي.
وإذا مارس كل واحد منا الرقابة على نفسه قبل أن يوغل فيما يعتقد محاسبة الآخرين، ستتحول لحظات الاختلاف في الموقف إلى تعبير عادي الذي لا يفسد للود قضية.
لست مولعا بذكر المرجعيات الايديولوجية، لكن تطابق الحالة والحاجة إلى ما تفيد الإشارة إليه، واليساري بالإشارة يفهم، كنا في التكوين، نمسك كتيب ماو تسي تونغ عنوانه “في الممارسة العملية”. وكنا نلتزم حدودنا التي تترك لدينا اليقظة الكافية كي لا نصبح سمكا ميتا في ماء اجتماعي غير صحي نطالع بين الفينة والأخرى كتيب “ضد الليبرالية”. والمعنى المراد في الكتيب هو “السلوك غير المسؤول”. ولو أن البعض منا فهم “الغوبشة” والقطيعة بين النضال اليساري وبين المكتسبات الليبرالية، خصوصا في مجتمع شرقي يغلب عليه التنابذ بل والتنابز لأبسط الأسباب.
كل هذه الإطلالة من أجل عرض رأي بصدد العدة السياسية غير المتوفرة بيننا لاستقبال العتاد الشعبي الذي يحيطنا بدعمه المبدئي والذي كان من المفروض أن ننشغل معه ولم تبق للانتخابات سوى سنة.
وضمن الدينامية التي يعرفها محور الفيدرالية ضمن جدول الأعمال، حبذا لو كان الاشتغال بيننا برنامجيا حيث نتحفز جميعا إلى الاشتغال مع المحيط الانتخابي كلجن فيدرالية بدل الانغلاق في هموم التنظيم الاندماجي الذي يسعه الزمن السياسي الذاتي بغلاف لا بخل فيه من أي كان كائنا من كان ونحن الذين نطمح بلا ذرة شك في بناء الحزب الاشتراكي الكبير، لكن من خلال جدول الأعمال المطروح على الحياة السياسية للشعب.
ماذا لو قلنا، أننا ونحن نقف لحظات تقييم مدى التقدم في الانتخابات من حيث عدد الأصوات وإيقاع المشاركة في التعبئة ومن خضم الحصيلة التعبوية، ساعتها وبعد الخروج من محطة لا تنتظرنا ولا ترحم من حيث تفاصيل جدول أعمالها المطروح يمكننا أن نترك الأحصنة جامحة لربح السباق الموضوعي.
إن الوضع السياسي من خلال كأس افريقا لكرة القدم مثلا، كنقطة جماهيرية واسعة الاهتمام، أعطتنا فرصة محاكمة السياسة العمومية في هذا القطاع الحيوي الذي يعيشه الناس جزءا من العيش البسيط، لو كان لنا اهتمام محيّن بما يهتم به المغاربة وما يعتقدون فيه وعبره من أحلام مشروعة، كنا سنعلن الموقف الذي يسترعي انتباه المغاربة لنقول لهم أن في كل اهتماماتهم ما يحبطهم يحبط الحزب الاشتراكي الموحد. وكان في الإمكان خلق انجذاب من داخل المكاتب المسيرة لفرق كرة القدم وعلى قدر الانشغال بالتنظيم الوحدوي كان من واجبنا الانشغال بعجز المنتخب عن تحقيق ما حققه الجزائريون والتونسيون. وكان في الإمكان الاستقطاب الإعلامي المنقح بمواقفنا في قطاعي الشباب والرياضة. أما تعاملنا بلامبالاة مطلقة كحزب مع الحدث المؤلم، لا يبشر سوى كوننا نماس سياسة مفوتة، كأننا مجرد مدمنين على “السياسة” بينما يعيش قطاع الرياضة سياسة عمومية كارثية، وتصرف عليه ميزانيات قارونية من جيوب دافعي الضرائب ومستضعفي الأجراء.
عندما نرى تعليقات أطر الحزب، مواكبين للحدث، نعتبر اهتماماتهم صائبة ومصاحبة لهموم الناس. لكننا من فقر بعد نظرنا في بعض الحالات، نلوم غضب المغاربة بصدد نتائج الكرة ونضع التناقض الوهمي بين غضبهم في الكرة وغضب المسيّسين حول الاعتقال السياسي والأحكام الجائرة، بما يضع صورتنا أمام المغاربة وكأن خطابنا مترفع عن الانشغال اليومي للمغاربة، وبالتالي وفي هذه الحالة يصبح خطابنا السياسي وكأنه آت من جزيرة الواق واق.
هذه المفارقات في الانشغالات التي تترك لحظات من الصمت لدينا تجاه اهتمامات مجتمعية فعلية، تدخلنا إما في أورثوذكسية مذهبية أو سياسة مثقفية معزولة أو سياسة تصبح بالنتيجة سياسوية لأن صمتنا بصددها في صالح السياسة الرسمية للنظام السياسي التنفيذي.
تلك المفارقة التي تصنع الهوة السحيقة بين واقع الحياة السياسية وبين الانشغال المقراتي المغلق، على مسافة زمنية جد قليلة من الانتخابات.
جهود رفيقاتنا ورفاقنا في التنظيم الحزبي جبارة ومضنية. لكن القليل منها منفتح على الهموم الشعبية الكئيبة فعلا. الآن، نحتاج للتصنيف اللينيني لنقول إنها سياسة برجوازية صغيرة، إصلاحية بالمعنى النخبوي الضيق. من المبتدإ الحزبي المسيطرإلى الخبر الرياضي المهمل. هل يصح أن أقول إن حالة شرود عملنا الحزبي يخلق النرفزة بيننا، ليس لأن طباعنا سيئة. بل لأن برنامج اشتغالنا أضيق من رحابة الساحات الشعبية.
وبالعودة الى ما ابتدأت به حول تحليل خلاصلات، رفيقي ابراهيم ياسين حول الاندماج في حلقاته السابقة، ما دامت اهتماماتنا عاجزة عن الربط بين هوليغنس أنجلترا إثر سياسة تاتشر التصفوية للحركة العمالية هناك، وبين إعطاء الظهر لما مر من تجارب الأولتراس وما تلاها من تيفوات وحراكات بل وأناشيد نضالية لأكبر الفرق في حجم الرجاء والوداد واتحاد طنجة، وهلم مؤشرات نتبرم عنها بوجوهنا ونصم آذاننا، فستبقى لياقتنا التنظيمية ضامرة العضلات الاستقطابية حتى داخل صفوف اليسار الراغب في الاندماج ولو بعملية قيصيرية كما لو كنا نعاني من حالة “الراقد”.