(…) بينما كنت أغادر الحي الجامعي ذات زوال (1987) رفقة صديق لي و في إتجاه كلية العلوم لحضور دروس المساء، لمحت من بعيد رجلا بهيئة قروية. كان يرتدي جلبابا و يضع عمامة بدوية على رأسه. قلت لصديقي: إنه يشبه الوالد. لكني لم أعر للأمر أهمية، لأن والدي لا يزور مدينة مثل مدينة وجدة. ليس له ما يفعله فيها.
إقتربنا من مكان وقوفه، و تفاجأت بأن الرجل القروي الذي كان يتفحص وجوه الطلبة المارين هو والدي فعلا.
سلّمت عليه، و سألته: ما الذي أتى بك أيها الوالد لوجدة؟
قال لي: ” جيت ندّيك معي”. ما بغينا قرايا و ما بغينا جامعة”!!
رافقته إلى بيت صديق لي بحي القدس و حضرت له بيض مقلي للغذاء، ثم سألته من جديد: ” كِفاش الوالد جيت تدّيني معك؟”
قال لي: ” لقد إستدعاني القايد، و قال لي أنك تنتمي لمنظمة حمراء؛ و لقد أخبرني بعض شباب القرية أنك تجمع 4000 طالب و تخطب عليهم. و لأنني لا أريد أن أزورك و أنت في السجن، أريد أن تعود معي للقرية و أن تغادر الدراسة نهائيا، و سأزوجك و “أنا نخدم عليك و ما تخصك حتى حاجة”.
قلت له: لعن الشيطان الوالد!!” . “لا تصدقش أي حاجة يقولوها لك عني” . “كيف لي أن أخطب على 4000 طالب؟ و ماذا سأقول لهم؟” . “صحيح أنني أشارك في المظاهرات، لكنني غير واحد من الجماعة”!….
طمأنته قليلا، و تراجع عن مسعاه مع أنني لم أكن أنوي مرافقته باي حل من الأحوال.
طلب مني مرافقته إلى محطة القطار فترددت. لكنني إضطررت إلى فعل ذلك. سرت به عبر الأراضي الزراعية و أوصلته إلى محطة الواد الناشف شرق المدينة من دون أن تطأ قدماه المدينة.
إنتبه للأمر، فسألني: ” علاش أولدي ديتني غير مع الخلاء؟ هل تتحاشى أمرا ما؟”. قلت له:” لا ، الوالد. لقد فعلت ذلك من أجل إختصار الطريق فقط”!!!
لكن الحقيقة أن زيارة الوالد جاءت في أسوء الأوقات. فأسابيع قبلها كان الحي الجامعي قد تعرض لإغارة من طرف منتمين لجماعات إسلامية، و لئن هم فشلوا في مسعاهم المتمثل في السيطرة على الحي الجامعي، فقد إنبثوا في بعض أحياء المدينة و كانوا يترصدوننا للإنقضاض علينا ممّا جعلنا نتجب يومها الذهاب إلى المدينة فرادى.
و لأن الوالد تيقن لاحقا أن إبنه كان فعلا منخرطا و مشاركا في كل حراكات الطلبة و في اشياء أخرى، فإنه لم يعد يصدق تطميناتي له أبدا. فقبل أشهر قليلة فقط، و بعد مرور أكثر من 30 سنة على زيارته تلك، قال لي بعد تغيبي عن القرية لبضعة أيام خلال عطلتي السنوية: ” أولدي، الله يسمح لي، أظن أنك عندما تغيب عن القرية فإنك كتمشي تخروض في شي بلاص و من بعدها كترجع لعندنا”!!!
الله يسمح لنا من الوالدين!!
حماد البدوي