منذ أن طرحت علينا المستجدات السياسية تحديد موقف واضح من مسألة العمل الشرعي، وبعدما تجمعت لدينا مجموعة من المؤشرات الأولية التي تنبئ بإمكانية الانتقال إلى مرحلة جديدة في عملنا الثوري… منذئد ونحن نناقش ونقلب موضوع العمل الشرعي من جميع جوانبه محاولة منا لفهم كل أبعاده وانعكاساته على تطورنا وتطور مجموع الحركة الثورية والديمقراطية ببلادنا.
لقد وضعنا على أنفسنا مجموعة من الأسئلة، كان أهمها :
1 – كيف عالجت الماركسية والأحزاب الثورية هذه المسألة ؟
2 – هل يسمح الوضع الراهن واحتمالات تطوره بإمكانية العمل الشرعي الثوري ؟ وهل يفرض علينا ذلك بعض التنازلات ؟
3 – أين نضع هذه الخطوة في شروط تطورنا الخاص، وفي مجموع عملية بناء الحزب الثوري ؟
4 – ما هي سمات ومهام فترة الانتقال ؟
وعلى هذه الأسئلة التي طرحناها، ويطرحها العديد من الرفاق سنحاول أن ندلي بوجهة نظرنا بصورة مركزة وشاملة كلما أمكن.
1 – كيف عالجت الماركسية والأحزاب الثورية هذه المسألة ؟
في حدود معرفتنا، لم تعالج الماركسية هذا الموضوع معالجة مستقلة بذاتها. ولم تسع بالتالي إلى وضع وصفة جاهزة تحدد على وجه الإطلاق الشروط التي ينبغي فيها على الثوريين أن يقبلوا بالعمل الشرعي، والشروط المناقضة التي لا ينبغي فيها ذلك. وهذا أمر طبيعي مبرر ومفهوم، مادامت الأدبيات الماركسية الثورية تضع دائما إشكالية العمل الشرعي والسري ضمن إشكالية أوسع، وهي ما نسميها بقضايا أشكال النضال، والتي يحددها في التحليل الأخير السمات العينية لكل بلد، وشروط النضال الثوري الملموسة في مرحلة معينة من تطور الصراع الطبقي فيه. وعلى هذا الأساس ودون مجازفة من قبلنا يمكن القول : أن وجهة النظر الماركسية في موضوع الشرعية يستنتج استنتاجا – إن صح التعبير- من وجهة نظرنا العامة حول ارتباط تبدل أشكال النضال بتبدل شروط الصراع الطبقي. والشرط الوحيد الذي تضعه الماركسية في هذا المجال هو ضرورة ارتباط كل أشكال النضال المستخدمة بغرض تنمية عوامل الثورة الاجتماعية-السياسية، والالتزام بها هدفا وممارسة.
إن انجلز ولينين -فيما بعد- لم ينتقدا أبدا الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية أو العمالية التي كانت تتمتع بشرعيتها، على شرعيتها بذاتها. بل على العكس، حبذا ذلك، وفاخرا به أحيانا كمكسب تاريخي سيكون له نتائج بعيدة في نجاح الثورة البروليتارية، وفي الإجمال نظرا إلى الشرعية كخطوة ضرورية وهامة في توعية الطبقة العاملة وتنظيمها وتهيئها للثورة. أما انتقاد لينين -فيما بعد- فقد انصب وبالضبط على تخلي هذه الأحزاب على هدف الثورة بعدما أصبحت ضرورة مستعجلة ومهمة آنية في الوضع السياسي فانتقدها على دعمها لبرجوازيتها وخضوعها المطلق للعمل الشرعي وللبلاهة البرلمانية. لقد قيل وقتها أن الشرعية أفسدت الأحزاب الاشتراكية. وفي الحقيقة فإن الشرعية لا تفسد إلا الأحزاب التي تكون مهيأة لذلك إيديولوجيا وسياسيا واجتماعيا.
حقا إن لينين أكد على سرية الحزب الثوري في روسيا الأتوقراطية التي تكاد تنعدم فيها الحريات السياسية الديمقراطية. بل واستنتج من ذلك مجموعة من الخلاصات التنظيمية التي طبعت اللينينية في المجال التنظيمي إلا أن لينين لم يفكر قط في جعل سرية الحزب شرطا مطلقا لثوريته ومبدأ فوق الزمان والمكان الذي تناضل فيه الطبقة العاملة.
إن نظرية لينين في الحزب الثوري، وفي النموذج التنظيمي الذي وضعه (والذي يحتوي على العديد من السمات الروسية الخاصة) لم يكونا وليدين أو مشتقين من ضرورة العمل السري، ولا كانت هذه الضرورة هي الموجه الرئيسي لنظريته ولنموذجه. فمن المعروف أن عارضي لينين أنفسهم لو يكونوا وقتها ضد سرية الحزب، ولا كانوا بمدافعين عن شرعيته. فالخلاف إذن، وجوهر الجدل اللينيني هما ابعد من هذه النظرة الضيقة لنظرية الحزب الثوري. إن صراع لينين وجداله كانا مرتبطين بمفهومه الأصلي عند دور الحزب في الصراع الطبقي في شروط اجتماع الثورتين الديمقراطية والاشتراكية (صراع لينين كان موجها ضد النزعة الاقتصادية وضد محو الفوارق بين الطبقة والحزب وضد ترك قيادة الثورة الديمقراطية للبرجوازية).
من هذه اللمحة الخاطفة يمكن الاستنتاج بأن الماركسية ليست ضد الشرعية ولا مع السرية من حيث المبدأ. وأنها تترك إشكالية الاختيارين بين أحد الأسلوبين أو الجمع بينهما، لتقدير الثوريين لشروط نضالهم العينية. والشرط الوحيد هو أن ينسجم هذا الاختيار مع أهداف الثورة الاجتماعية والسياسية. ولكنها (ولنؤكد على هذا الاستنتاج فقط لانتشار مفاهيم يسراوية ساذجة) تعتبر أن لجوء الأحزاب الثورية إلى السرية هو حالة اضطرارية يفرضها عليهم انعدام الحريات الديمقراطية ولجوء الطبقات الحاكمة غلى العنف كلما شعرت بأن الديمقراطية قد باتت تهدد مصالحها ووجودها. بينما تعتبر العمل الشرعي هو بمثابة الحالة الأفضل والأمثل لنضال البروليتاريا كلما كان ذلك ممكنا.
وإذا كانت النصوص النظرية لا تقدم لنا ”وصفة جاهزة“ تريحنا من تعقيدات الاختيار الصعب، اللهم إلا الكيفية التي يجب أن نطرح بها المسألة من الوجهة المبدئية، فإن التجارب الثورية تكشف لنا هي الأخرى عن سبل متنوعة وغنية من حيث أسسها التكتيكية وتطبيقاتها العينية. ونعترف مسبقا أننا لا نتوفر على مواد كافية لتقديم صورة مفصلة عن بعض هذه النماذج، ومع ذلك سندلي بملاحظتين أساسيتين :
الأولى : نقدمها كجواب على سؤال طرحته علينا مراجعة التجربة البلشفية وهو : لماذا عارض لينين اتجاه تحويل الحزب إلى حزب شرعي ؟
والثانية : نقدمها كخلاصة من التجربة الفيتنامية التي نراها أقرب من بعض الجوانب إلى ما تهدف إليه تجربتنا في الوضع الراهن.
أولا : من المعروف أن لينين، بعد هزيمة الثورة قد صارع في آن واحد ضد الاتجاه الذي كان يدعو إلى تصفية الحزب السري والتحول إلى حزب شرعي وضد الاتجاه الذي كان يدعو إلى الانسحاب من البرلمان والذي لا يرى فائدة في استغلال الهوامش الشرعية. والذي يهمنا هنا هو الاتجاه الأول. فلماذا عارض لينين الدعوة إلى الشرعية ؟
في نظرنا يرجع ذلك إلى سببين :
الأول : هو أنه اتجاه كان يزعم أن زمن الثورة قد ولى وانتهى بعد انتفاضة 1905. وأن الحقبة التي دخلتها روسيا القيصرية هي حقبة التحول البرجوازي الدستوري الهادئ. وهذا معناه بصريح العبارة تحويل الحزب البلشفي من حزب ثوري إلى حزب ليبرالي مبتذل.
الثاني : هو أن الفترة نفسها كانت من أشد الفترات قمعا ورجعية ضد القوى الثورية على وجه الخصوص بالرغم من كل الإصلاحات الدستورية الفوقية. هذا في الوقت الذي لازالت فيه الطبقة العاملة تختزن طاقة ثورية هائلة رغم ما أصابها من انتكاس مؤقت بعد هزيمة الثورة. وهذا بالضبط ما كان لينين يحسبه ويرتقبه. وهو ما أثبتت الأحداث بعد زمن وجيز صحته وصحة التكتيك اللينيني اتجاهه.
ثانيا : أما التجربة الفيتنامية فهي تمدنا بنموذج آخر، لم يكتف فيه الشيوعيون باستغلال بعض الهوامش الثانوية في الشرعية وحسب، كما فعل البلاشفة بل احتل العمل الشرعي لديهم مركز الثقل في النضال السياسي مستغلين في ذلك وجود حكومة شعبية في المتروبول في أواسط الثلاثينيات، ووجود تناقض عالمي ضد النازية والفاشية.
والجدير بالملاحظة أن الشيوعيين الفيتناميين تنازلوا مؤقتا عن مطلبهم الاستراتيجي الأصلي الذي هو ”استقلال الفيتنام“ في سبيل تدعيم وجودهم وشعبيتهم داخل أوسع الجماهير الكادحة من خلال مجموعة من النضالات والمطالب الديمقراطية والإصلاحية. ولقد قيم الفيتناميون فيما بعد هذه الفترة من نضالهم بكونها كانت التمهيد الضروري الذي لولاه لما كان بإمكانهم خوض الكفاح المسلح، واستنهاض الجماهير في المراحل الثورية اللاحقة.
هذه التجربة مفيدة لنا من وجهتين : الأولى، من حيث أهمية العمل الشرعي في مراحل معينة من تطور النضال الثوري، قصد تعميق ارتباط الحركة الثورية بالجماهير، والثانية من حيث أهمية النضال الديمقراطي العم ولو كان مصحوبا ببعض التنازلات الأساسية والمؤقتة قصد تعبئة الجماهير واستنهاضها لمراحل أعلى من النضال الثوري.
هكذا في نظرنا عالجت الماركسية والأحزاب الثورية مسألة العمل الشرعي. إن الكلمة الفاصلة والأخيرة كما حاولنا أن نبين في كل ما قلناه هي للشروط الخاصة التي يجتازها الصراع الطبقي في مرحلة معينة.