يشكل القطاع الفلاحي محركا أساسيا للاقتصاد الوطني ككل ومرتكزا ضروريا للتنمية القروية ومدخلا لمواجهة تحديات العولمة. فالقطاع الفلاحي قد يمكن،إذا تم سن سياسة جديدة للنهوض به، من تحقيق نمو اقتصادي قوي نظرا لارتباطه وتأثيره على مجمل القطاعات الأخرى المنتجة ويمكن من خلق مناصب شغل وتنمية أنشطة جيدة بالعالم القروي من شأنها أن تساهم في تنمية مداخل الساكنة القروية والحد من الفقر والتهميش.
إن تحقيق التنمية القروية عبر النهوض بالقطاع الفلاحي مرتبط بتوفير التجهيزات التحتية والاقتصادية والاجتماعية نظرا لما تلعبه هذه التجهيزات من دور حاسم في تنمية القدرة التنافسية و لما لها من انعكاسات على مستوى تكوين العنصر البشري وتكثيف الإنتاج وتطوير وتنويع الأنشطة الغير فلاحية بالوسط القروي.
رغم الأولية التي أعطيت لهذا القطاع منذ بداية الاستقلال حتى الثمانينات والتي اعتمدت أساسا على سياسة السدود وتجهيز دوائر سقوية كبرى لم تمس إلا مناطق محدودة غنية أصلا و كلفت الدولة أثمانا باهظة فإن القطاع الفلاحي المسير من طرف الدولة يعرف ركودا وتدهورا ويعاني من تآكل التجهيزات المنجزة. ولم تستطع السياسات المتبعة استثمار ما يتوفر عليه هذا القطاع من مؤهلات بشرية مهمة سواء فيما يتعلق بالتجربة العريقة للفلاحين المغاربة في هذا القطاع أو كفاءة الأطر المغربية المتخرجة من المعاهد الوطنية والتي تعاني من التهميش رغم الحاجة الماسة إليها.
إن الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للمغرب تحتم علينا اليوم إعادة الاعتبار للقطاع الفلاحي وتوفير كل الشروط والإمكانيات للنهوض به نظرا لما يلعبه من دور أساسي في الدورة الاقتصادية :
فعلى مستوى التشغيل يمثل الشغل الفلاحي المباشر حاليا ما بين 40 و50 في المائة من مناصب الشغل على الصعيد الوطني و 80 في المائة من فرص الشغل على مستوى العالم القروي.
ويساهم في ما بين 12 و24 في المائة من الناتج الداخلي الخام حسب التقلبات المناخية.
ويلعب القطاع الفلاحي دورا كبيرا في تغطية الطلب الغذائي وتأمينه فيما يخص الحبوب ، السكر ، الحليب و اللحوم والخضر والفواكه فيما يظل الخصاص كبيرا فيما يخص الزيوت.
كما يتميز القطاع الفلاحي بدور هام في تنمية التجارة الخارجية حيث تشكل الصادرات 18 في المائة من مجموع الصادرات فيما الواردات تشكل 19 في المائة من مجموع الواردات.
ويساهم القطاع الفلاحي في تنشيط العديد من القطاعات سواء الموجودة في عاليته نظرا لما يتطلبه من تجهيزات وخدمات ومواد أو الموجودة في سافلته لما يوفر لها من مواد أولية خاصة الصناعات الغذائية.
من جانب آخر تفرض علينا تحديات العولمة تدارك التأخير الحاصل القطاع الفلاحي وتأهيله.
إن السياسات الفلاحية المتبعة بغض النظر عن جدواها لازالت بعيدة جدا حتى عن الأهداف التي رسمتها رغم التكلفة العالية لهذه السياسات. فرغم التجهيزات الكبرى التي أنجزت منذ أكثر من 20 سنة (سدود، دوائر سقوية كبرى) فإن مردود الزراعات الموجودة في هذه الدوائر لا تمثل سوى 30 في المائة من المردود القابل للتحقيق بالنسبة لجل الزراعات، كما لازالت نسبة السقي داخل بعض الدوائر السقوية الكبرى تحت المستوى المطلوب.
وما يمكن استنتاجه بالنسبة للقطاع الفلاحي فإنه لازال يتوفر على مؤهلات و إمكانيات للتقدم وهوامش للتطور سواء داخل المناطق السقوية المجهزة التي يجب تدارك التأخير الحاصل فيها أو خارجها التي يجب بذل مجهودات كبيرة لاستغلالها.
ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا بتبني استراتيجية جديدة واضحة بمشاركة كل الفاعلين لتنمية مندمجة في العالم القروي والتي أصبحت ضرورية اليوم من أجل محاربة الفقر والتهميش. هذه الاستراتيجية يجب أن تشمل كل عناصر و أوجه الاقتصاد القروي مع أهداف رئيسية أهمها:
– توفير المتطلبات الأساسية للمواطنين فيما يخص التجهيز ( الماء، الكهرباء، الطرق، المسكن…) والخدمات الأساسية ( المدرسة، محاربة الأمية، الخدمات الطبية…).
– توفير مناصب شغل قارة تمكن من الحصول على مداخيل كافية للعيش الكريم وغير خاضعة للتقلبات المناخية.
– توفير المناخ المحفز على خلق أنشطة جديدة على مستوى الفلاحة ، الصيد البحري التقليدي، السياحة… بخلق مقاولات صغرى في هذه الميادين. كما يفترض كذلك استغلال جميع الإمكانيات التي يتوفر عليها القطاع الفلاحي سواء في المناطق السقوية أو البورية من أجل تحسين مرد ودية المنتجات وذلك بتقوية التأطير التقني والرفع من المستوى التعليمي للفلاحين و إدماج القدرات العلمية والبحث العلمي التنموي.
إن المناظرة الوطنية للفلاحة والتنمية القروية التي انعقدت بالرباط في يوليوز 2000 والتي شاركت فيها أطر وطنية كفأة بشكل فعال أبانت عن تحليل عميق ذو بعد اجتماعي وعن قوة اقتراحية كبرى ظلت حبيسة الرفوف وساهمت في بلورة استراتيجية يمكنها أن تشكل قاعدة صلبة للعمل إذا ما تم تحيينها وتطعيمها وتفعيلها في الواقع عبر برامج مدققة.
وكما جاء في هذه الاستراتيجية فإن النهوض بالقطاع الفلاحي وتحقيق التنمية القروية يستلزم على الدولة تقديم دعم حاسم لكل الفلاحين والفاعلين في هذا القطاع بدل تخليها التدريجي الذي تمارسه الآن وترك المجال للقطاع الخاص الذي رغم
أهميته تظل مبادرته غير كافية ومحدودة جدا. لأن القطاع الفلاحي بالنظر لأهميته الاجتماعية وهشاشته يتطلب تدخلا قويا ومتواصلا للدولة وتنظيم جديد لوزارة الفلاحة يرتكز بالأساس على مفاهيم اللامركزية و الجهوية وسياسة القرب وتقوية المصالح الخارجية ذات الصلة المباشرة مع الفلاحين من أجل تأطيرهم و تنظيمهم في جمعيات وتعاونيات من أجل تمكينهم من استعمال التكنولوجيا الحديثة و القدرة التنافسية في الأسواق.
إن أي استراتيجية تهدف إلى النهوض بالقطاع الفلاحي و تحقيق التنمية الشاملة للعالم القروي ولكل الاقتصاد الوطني يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الأولويات التالية:
* العمل على ترجمة استراتيجية التنمية القروية إلى برامج عمل منسجمة مع القطاعات الأخرى.
* إعطاء أولوية كبرى لتأهيل العنصر البشري بالعالم القروي من أجل تدارك التأخير الحاصل في التربية والتكوين وتنمية الكفاءات المهنية للسكان القرويين عبر وضع خطط وطنية كبرى في هذا المجال في أفق عصرنة البادية المغربية وتمكين ساكنتها من مسايرة التقدم التقني و التنافسية .
* العمل على إيجاد حلول سريعة للمشاكل العقارية التي تشكل عائقا كبيرا أمام تقدم الفلاحة المغربية والعمل على الحد من تباينات الملكية العقارية ودعم الاستغلاليات الصغرى وإعطائها الأسبقية من الاستفادة من أراضي الدولة ومن اقتناء الأراضي المعروضة للبيع والعمل على تصفية نظام الأراضي الجماعية القابلة للزراعة .
* تشجيع نظم الإنتاج الأكثر استعمالا لليد العاملة دون إغفال جانب التنافسية والاستدامة مع تشجيع سلاسل الفواكه والخضر و تطوير الصناعة الغذائية وتشجيع إنشاء شركات الخدمات من طرف المقاولين الشباب (الدراسات…).
* رد الاعتبار للعمل التعاوني لتعاونيات على قواعد ديموقراطية وشفافة وحمايته من التسلط الإداري ومن المفسدين ومراعاة مبدأ التجانس بين المنخرطين عند التأسيس و السهر على منع أي هيمنة أو تسخير هذه التعاونيات لأغراض أخرى ويتطلب هذا مراجعة قانون التعاونيات الفلاحية وتأطير فعال لها من طرف الدولة.
* تطهير وتنظيم قنوات التسويق بهدف الحد من جبروت الوسطاء وضمان مردود مناسب للمنتج مع العمل على تنويع الأسواق الخارجية.
* العمل على عصرنة وتفعيل دور الغرفة الفلاحية وتعزيز دورها في تنظيم الفلاحين الصغار في تعاونيات أو جمعيات أو أي شكل آخر يمكنهم من الرفع من إنتاجيتهم وقدرتهم التنافسية.
* تشجيع البحث الزراعي ومده بالإمكانيات المادية الضرورية حتى يلعب دوره المركزي في عصرنة تقنيات الفلاحة والعمل على إيجاد أصناف جديدة للمزروعات تتلاءم مع ظروف الجفاف وذات مردودية أكثر وكذلك العمل على مسايرة التنافسية.
* العمل على إيجاد عن طريق البحث الزراعي على مزروعات ذات قيمة مضافة عالية (مزروعات ذات جودة عالية ومزروعات خاصة كالنباتات الطبية) وتعميمها
في المناطق الجبلية ذات الاستغلاليات الصغرى من أجل الرفع من إنتاجيتها ومداخيل الفلاحين الصغار.
* العمل على نقل وتعميم نتائج البحث لعموم الفلاحين وملاءمتها مع مختلف أصناف الاستغلاليات وبالأخص الصغرى والمتوسطة ذات الإمكانيات المحدودة للوصول إلى هذه النتائج.
* الاهتمام بالزراعة الجبلية التي لازالت مهمشة والتي تتوفر على مؤهلات متنوعة غير مستغلة خاصة فيما يتعلق بالأشجار المثمرة ، الزراعة البيولوجية ، النباتات الطبية و غيرها.
وإضافة إلى هذه التدابير وسعيا نحو توفير إمكانيات استيعاب اليد العاملة القروية محليا لابد من العمل على تنويع الأنشطة الاقتصادية بالبادية المغربية بتشجيع توظيف الأنشطة الصناعية والخدماتية المرتبطة بالإنتاج الفلاحي والتجهيزات الفلاحية,
لإنجاز هذه الإستراتيجية لا بد من نهج سياسة تشاركية يساهم فيها المواطنون و المعنيون والمنتخبون المحليون والمصالح الغير ممركزة والجمعيات أجل اتخاذ القرارات اللازمة والصالحة في إطار من التشاور والحوار الجاد.