وثيقة حول السياسة التعليمية للمؤتمر الثاني لحزب اليسار الاشتراكي الموحد

وثيقة حول السياسة التعليمية للمؤتمر الثاني لحزب اليسار الاشتراكي الموحد
 
أولا : أهمية التعليم كاستثمار استراتيجي :
         من المسلم به في ظل التحولات العالمية الراهنة والثورات الإعلامية والتكنولوجية أن التعليم أضحى اليوم في صدر الاهتمامات وفي مقدمة الخدمات الأساسية التي تستهدف التقدم المتكامل وتستشرف آفاق التنمية الشاملة وذلك لما يلعبه من دور وازن في القضاء على الأمية وإعداد أبناء الشعب للمساهمة الفاعلة في التنمية والبناء، مسلحين بالمتطور والمشرق من القيم الروحية والأخلاقية والوطنية والإنسانية. من هنا تبرز أهمية الرهان على التعليم باعتباره قاطرة للتنمية ورافعة أساسية من رافعات التقدم المنشود.
لذلك تشكل المسألة التعليمية إحدى المسائل الاجتماعية الجوهرية التي تستأثر باهتمام كافة شرائح المجتمع المغربي، بل إن هذه القضية ظلت محورا نشيطا ضمن محاور الصراع بين الحكم والمعارضة على امتداد سنوات طوال، حتى إنه يمكن القول بأن تاريخ التعليم الحديث بالمغرب هو نفسه تاريخ الصراع السياسي والاجتماعي بتمايزات طفيفة.
ونظرا للأهمية الكبرى التي تختص بها المسألة التعليمية عند كافة فئات وطبقات الشعب المغربي والتي كانت تنظر إلى التعليم كسبيل لتحسين أوضاعها الاجتماعية فقد أولت مكونات وأجيال اليسار الاشتراكي الموحد اهتماما خاصا لهذا الملف وانحازت فيه إلى جانب الشعب انحيازا كاملا؛ وراكمت لذلك أدبيات في المجال لها وزنها التاريخي والسياسي. لكل ذلك ظل التعليم وسيبقى في نظر اليسار الاشتراكي الموحد استثمارا استراتيجيا تسترخص في سبيله كل التضحيات مهما بلغت، وبالتالي على الدولة أن تتحمل كامل مسؤولياتها وتبدل كامل جهدها من أجل تمكين هذا القطاع الحيوي من لعب دوره المركزي في تأهيل البلاد ومساعدتها على الاندراج في مستلزمات التحديث والعصرنة عوض إعادة إنتاج نفس الإختلالات التاريخية التي جعلت هذا المجال يخفق في مساعدة المجتمع على إرساء دعائم التنمية الشاملة وتحقيق تطلعاته المشروعة لمواجهة التحديات العلمية والاجتماعية والاقتصادية وقد ظل هذا الموقف الذي يعتبر التعليم استثمارا استراتيجيا مناقضا لرؤية الحكم الذي ظل يدعي أن التعليم ليس إلا قطاعا مستهلكا، حيث آل الصراع أخيرا إلى الاعتراف بكون التعليم خيارا استراتيجيا وقاطرة فعلية للتنمية.
واليسار الاشتراكي الموحد حين يفكر بعمق في المسألة التعليمية فإنه يربط بوضوح كامل العلاقات المتشابكة بين الوضع العام للمجتمع المغربي ووضع منظومته التربوية فأزمة التعليم ليست إلا بعضا من الأزمة الشاملة والمأزق الذي وصل إليه التعليم المغربي ناجم بالأساس عن تراكم الأزمات المتوالية التي تعقد لحلها هيئات خارج المؤسسات الدستورية وعلى رأسها المجلس الأعلى للتعليم الذي نراه الإطار الشرعي للإشراف والتوجيه في هذا المجال بعد إعادة تركيبه وتنظيميه وضبط قوانينه.
ثانيا : المبادئ والمرتكزات الأساسية:
         لقد ظل النقاش حول المسألة التعليمية بالمغرب رهبنا لزمن طويل يتجاذب المواقف حول المبادئ الجوهرية التي يلزم أن تتأسس عليها السياسة التعليمية منذ انعقاد اللجنة الملكية الأولى لإصلاح التعليم سنة 1957، حيث تم إقرار التعميم والمجانية والتعريب والمغربة كمبادئ أساسية معززة بالإلزامية والتوحيد، وظل الصراع متمحورا حول مدى الوفاء لهذه المبادئ وطرق تطبيقها، وإذا كنا نؤكد اليوم على الأهمية التاريخية لتلك المبادئ فإننا نرى أن الأهم هو بناء استراتيجية مستقبلية تستقطب دعم كافة مكونات الشعب المغربي وتضمن تحيين المبادئ التاريخية في عمقها وحمولاتها بما يتلاءم مع المستجدات السياسية والاجتماعية والثقافية لشرائح المجتمع المغربي وتطعيمها بمبادئ أخرى كالدمقرطة والتحديث والملاءمة والدفع بخطة محاربة الأمية إلى
مستوى المبدأ الوطني الذي يستلزم التجنيد الوطني الشامل للتخلص من هذا العار، ومن ذلك ضرورة التركيز على مبدأ:
2-1 تكافؤ الفرص:
      فإذا كنا نعتبر مبادئ التعميم والإلزامية والمجانية أبعادا ثلاثة لقضية تربوية واجتماعية واحدة تتمحور حول واجب نشر العلم والمعرفة وإكساب المواطن القيم الأساسية والمعارف اللازمة في مجالات الفكر والعمل وخلق الشخصية المتوارثة القادرة على المبادرة والعطاء.
وبما أن تعميم العلم والمعرفة يعتبر حقا دستوريا وحقا أساسيا من حقوق الإنسان فإنه يلزم أن يكون أولوية الأولويات توفر له كافة الإمكانيات التي تجعل منه أساسا ينبني عليه تكافؤ الفرص بين المواطنين لا أن يكون تعليما محسوبا او تعليما يجري وراء الكم على حساب الكيف، وإذا كان الميثاق الوطني للتربية والتكوين قد أكد على أهمية التعميم وحدد له مواعيد معينة منذ التعليم الأولي (سن الرابعة) فإن ما ينجز اليوم على أرض الواقع في إطار ما يسمى (أجرأة الميثاق) ليس إلا نوعا من تعميم الرداءة بعيدا عن التصورات التي جاء بها الميثاق الداعية إلى تعميم المدرسة الجيدة العمومية الحديثة والقادرة على التنافس َ!!، رغم أهمية الوصول إلى النسبة المعلنة 92.11% بما يغطي : 3.846.950 بالابتدائي و 1.134.152 بالإعدادي و 573.648 بالثانوي.
     إننا حين نؤكد على اعتبار التربية والتعليم أولوية وطنية بعد القضية الوطنية، فإننا نتصور اهتماما مجتمعيا متضافرا لمصلحة المدرسة العمومية الجيدة والمنافسة سعيا وراء تحقيق تكافؤ الفرص بين أبناء المغاربة أيا كانت مواقعهم الاجتماعية وانتماءاتهم الطبقية.
    و من هذا المنطق نشدد على مبدأ المجانية الذي نراه مدخلا ضروريا لتحقيق تكافؤ الفرص خاصة بعد أن اعترفت الدولة بكون التعليم مجالا للاستثمار في العقل البشري بعد أن كانت لزمن طويل تصارع من أجل الإقناع بفكرة أن التعليم مجال للاستهلاك ينبغي التخلص من تبعاته المادية!، إننا نلاحظ في ظل وضع تعليمي يوصف بكونه قائما على المجانية رغم علمنا بمساهمة الأسر المغربية في جزء كبير من تكاليف ومصاريف تعليم أبنائها أن نسبة الأمية ظلت مرتفعة بشكل مخجل، فكيف لسياسة تعليمية فشلت في تحقيق تعميم في ظل المجانية النسبية أن تحقق تقدما في هذا المجال وهي ترفع شعار التراجع أو التخلي ولو الجزئي عن المجانية؟ أم أن الخلفيات التي تحكم مواجهة هذا المبدأ لاتعدو أن تكون خلفيات مالية تهم مجال النفقات وتنصاع لتوصيات الأبناك و الصناديق الدولية التي ترهن حاضر ومستقبل البلاد؟؟.
    إن اليسار الاشتراكي الموحد حين يتشبث بمبدأ المجانية ويربطه بالتعميم والحق في التعليم وتكافؤ الفرص، فإنما يؤكد بذلك قناعة تاريخية وسياسية في أن ضرب المجانية ليس إلا مدخلا للإقصاء ولإعادة إنتاج تراتبات الاجتماعية القائمة ضدا على مبدأ الدمقرطة وتكافؤ الفرص. كما يأتي ذلك التشبث انطلاقا من تأكيدنا على أن بلدنا لا ينبغي أن يعمق أسباب التخلف، ولا نريده أن يتعارض ومتطلبات العصر العلمية والمعرفية القائمة على العنصر البشري.
    كما لا نريد لمغربنا أن يضع نفسه في تناقض مع المواثيق الدولية التي تهم حقوق الإنسان وحقوق الطفل.
ومن المسارات التي تراكم في اتجاه تكافؤ نسبي للفرص مسار التربية غير النظامية التي تستقطب الفئات العريضة من الأطفال الذين حرموا من حقهم في التمدرس أو تسربوا لأسباب متنوعة من المنظومة التربوية ويفوق عددهم مليونا ونصف مليون طفل وطفلة في سن التمدرس، وتقدم لهؤلاء المحرومين من حقهم فرصة ثانية للاستدراك وقد عملت في هذا الإطار العديد من الجمعيات ومؤسسات “المجتمع المدني” ولو لأهداف تجارية أحيانا بوظائف مهمة ولكنها على ارض الواقع غير كافية وهنا لابد أن تتحمل الدولة مسؤولياتها كاملة بوضع استراتيجية واضحة ودقيقة وطويلة النفس و تشجيع لأحزاب الوطنية والتقدمية على القيام بأدوار طلائعية ونضالية في هذا المجال.
وفي هذا الصدد لاشك أن مناضلي اليسار الاشتراكي الموحد سيوظفون كفاءتهم وتراكماتهم في إبداع صيغ وأساليب جديدة وجريئة للعمل في هذه الواجهة التي لاتقل عن واجهة محاربة الأمية التي تحتاج بدورها إلى استراتيجية وطنية شمولية وبعيدة المدى وتوفير كافة الوسائل والإمكانات للتقدم في اتجاه القضاء على هذه
الآفة التي تلطخ صورة الوطن وتجعله في الرتبة 125 بين الدول حسب دليل الأمم المتحدة للتنمية.
وفي نفس النهج المؤدي إلى تكافؤ الفرص يطرح اليسار الاشتراكي الموحد ضرورة العناية بتوسيع قاعدة التعليم الأولي الذي لا يغطي حاليا سوى 683.540 طفلا وطفلة وإيلاء الاهتمام لدوي الحاجات الخاصة من المعاقين وغيرهم ومراعاة
أوضاعهم، وكذا أبناء الجالية المغربية بالخارج الذي تقتضي المصلحة الوطنية حماية أجيالهم من التغريب والحفاظ على هويتهم المغربية المتفتحة، لذا على النظام التعليمي أن يكثف من جهوده عبر أشكال متعددة ومبدعة لتحقيق هذا الهدف النبيل.
2-2 تطوير بنيات النظام التربوي وآليات اشتغاله:
إن تحقيق هذه المبادئ وتفعيل مختلف الأهداف المرجوة إنما تمر عبر تعبئة شاملة تستهدف فيما تستهدفه:
أ – انسجام مكونات المنظومة التربوية من الأولي إلى العالي.
ب- إصلاح المناهج والكتب المدرسية.
ج-  بلورة سياسة تعليمية واضحة ومستقبلية في لغة التدريس وتدريس اللغات.
د –  تحسين الفضاءات المدرسية باعتبارها مجالا أساسيا للإصلاح المنشود.
2-3 تحفيز الموارد البشرية:
من المرتكزات الأساسية التي يبقى كل إصلاح مستقبلي رهبنا بها العناية بالموارد البشرية على اختلاف مستوياتها ومهامها وضمان استقرارها والرفع من وثيرة استشارتها وإشراكها في تدبير شؤونها وتحفيزها بتحسين الأوضاع المادية والمعنوية وتمكينها من تكوين مستمر وظيفي ونافع، وكلها عوامل ستساهم حتما في الرفع من مستوى هذه الموارد وحثها على القيام بوظائفها النبيلة على أكمل وجه، وفي هذه الشروط سيكون لتقديم الخدمات الاجتماعية وتحسينها اثر فاعل وإيجابي إذا ما اسند تفعيلها بتدبير لامركزي وديمقراطي ومرن ومتطور.
2-4  الجهوية واللامركزية:
لاشك أن السير الحثيث نحو اللامركزية واللاتمركز يعتبر خيارا استراتيجيا يحتاج اليوم إلى توفير كافة الشروط ليرسى على قواعد سليمة تخدم أهداف سياسة القرب ويأتي إرساء الجهوية على دعائم قويمة في مقدمة هذا الخيار الذي يلزم بتوفير كافة الشروط الضرورية لقيام هذه الجهوية التي لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تتحول إلى مركزية عقيمة في الجهة تخلق انطلاقة اللامركزية إلى مداها.
وفي غياب بلورة حقيقية مبدعة لهذه المبادئ والمرتكزات لن تكون إلا أمام آليات لإنتاج وإعادة إنتاج نفس العلاقات ونفس التراتبات التي ولدت الأزمات العميقة الحالية، إن الإصلاح الذي نراه للمنظومة التربوية المغربية لم يكن ولن يكون أبدا مجرد رتوشات وإجراءات شكلية كما هو الحال الآن، بل نراه إصلاحا جذريا متسلحا بالحداثة والعقلنة قادرا على تأهيل تعليمنا وتحديثه ليكون قاطرة حقيقية للتنمية وسبيلا سالكا في اتجاه العلم والتقدم والدمقرطة الحقيقية.
ختاما:
      إذا كان سؤال التنمية الشاملة و المتكاملة سؤالا يمس في العمق وجودنا وقيمنا وحضارتنا وهويتنا الثقافية والدينية، وإذا كان العصر الذي نعيشه بكل تجلياته عصرا للتحولات الكبرى الاقتصادية والسياسية والفكرية والإيديولوجية، وعصرا يتأسس على الإنسان في علاقته بمجالات المعرفة والعلم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال المتطورة، وإذا كان من غير الممكن لنا كبلد وكشعب أن ندخل هذا العصر إلا عبر بوابة التقدم والتنمية بما يحتله ذلك من دلالات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وعلمية.
فإننا مطالبون بإيلاء كامل العناية لإصلاح منظومتنا التربوية وستظل المسالة التعليمية وأوضاع نظامنا التعليمي وما تتطلبه من إصلاح جزءا من هذا الكل ولكن أيضا أداة من شأنها أن تساهم في  تهيئ الإنسان ليحيى كل أبعاده باعتباره كائنا مفكرا وكائنا منتجا وكائنا سياسيا وكائنا اجتماعيا.
إن اليسار الاشتراكي الموحد حين يضع في صلب اهتماماته عنايته الكاملة بالمسألة التعليمية ويعتبرها أولوية وطنية تستحق التجنيد المجتمعي ـ فلأنه يؤمن بالدور الوازن الذي يمكن أن تلعبه التربية والتعليم كقاطرة أساسية وسريعة للتنمية نحو الوعي والعلم والتقدم والنماء.